قبل أن تكاثروا الأمم يوم القيامة نافسوهم على الحياة (1 من 2)

هذا المقال يمثل مناظرة فكرية لبعض ما ورد في مقال الدكتورة نورة السعد، الذي أتى على صورة ثلاث حلقات تم نشرها في ''جريدة الاقتصادية'' بعنوان ''الاستثمار في النساء خيار ذكي'', هذا المقال لا يمثل دفاعاً عن تقارير وتوجهات الأمم المتحدة، التي تناولها مقال الدكتورة بالنقد ولكنه يمثل اعتراضا منهجيا على بعض الأفكار التي تفتق عنها العرض النقدي للدكتورة وردود القراء التي كانت كثيرة واتسم معظمها بالموافقة على تلك الأفكار, وما دعاني لكتابة هذا المقال هو كثرة عدد القراء لمقال الدكتورة ورغبتي في استثمار ذلك لإيضاح مفهوم مختلف بحيث يجد القراء تنوعا يثري استيعابهم التحديات الحياتية للمجتمعات المسلمة بصورة خاصة والمجتمعات العالمية بصورة عامة.
كان في أحد ردود القراء ذكر لما ورد في الحديث الشريف ''تناكحوا تناسلوا فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة'' وهو ما جسد مطالبة تمثلت روح مقال الدكتورة بصورة عامة, حيث يمكن تلخيص مضمون عرضها (إن الأمم المتحدة تستهدف التأثير في نساء المسلمين بحيث يتخلين عن الإنجاب المتعدد, ومع ذلك تقوم المنظمة الدولية بالحث على ممارسات مخالفة للإسلام تتمثل في تشجيع الشذوذ ومخالفة التعاليم الشرعية في تنظيم العلاقات الزوجية في حين تصمت تلك المنظمة عن مظالم تطول المسلمين ونساءهم من اعتداءات الأمم المتسلطة). وضمن ذلك المضمون دفاع عن عملية التكاثر بالإنجاب وتدعي بأن ذلك محقق للنهضة وجالب لسيادة الأمة الإسلامية عالمياً.
إن احتجاج سعادة الدكتورة نورة السعد على الدور الذي تقوم به الأمم المتحدة فيما يخص تنظيم الأسرة ليس شأني في هذا المقال ولست بصدد معارضته أو مجاراته, ولكن أن يساق مفهوم تقريري بأن مكاثرة الأمم في يوم القيامة هي جل همنا كمسلمين وهو ما يجب ان نرهن له مواردنا وسعادتنا وكياننا كأمة هو مفهوم حري بالنقاش والاختبار قبل التقرير, لذا سأبذل جهدي لإظهار أن ذلك المفهوم لا يخدم الأمة الإسلامية من حيث إنه يلقي على كاهلها عبئا لا تستطيع تحمله بما لديها من موارد, بل إنه يجعلها أمة مستهدفة بالإذلال والإخضاع وسلب حقوقها وحقوق أفرادها في حياة كريمة من الأمم الأقوى والمتسلطة بنفوذها الاقتصادي والمعرفي والعسكري, أن ما يقوم عليه المفهوم الداعي إلى التكاثر العددي هو فهم سطحي للحديث الشريف الخاص بمكاثرة الأمم يوم القيامة وهو محل تساؤل إذا ما أوردنا حديثا آخر في سياق مناقض حيث صح عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حديث يصف حال المسلمين في آخر الزمان نصه ''تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها, قالوا أو من قلة نحن يومئذ, قال بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل''، وهذا عين ما أحذر منه فضعف المسلمين ضعف كامن في الهيكلية الاجتماعية قبل السياسية وهو ضعف في القدرات على تحقيق الطموحات قبل أن يكون ضعفا في البرامج والسياسات.
إن المتدبر في حديثي الرسول -صلى الله عليه وسلم- والجامع لهما في مفهوم واحد لا بد أن يقرر أن التكاثر الذي ينشده صلى الله عليه وسلم هو تكاثر نوعي وليس كميا هو تكاثر محقق للغلبة, الغلبة التي تثبت أن الإسلام دين حياة ومعاد, الغلبة التي تجعل من المسلمين الأمة التي اختارها الله كخير الأمم لعمارة الأرض, ليس بالتقنية فقط بل بالأخلاق والحفاظ على البيئة وحفظ كرامة الإنسان. وما خلاف ذلك إلا إغراق بمفهوم سطحي محقق لا محالة لما حذر منه -صلى الله عليه وسلم- فحديث التداعي هو تحذير مما سيؤول إليه حال المسلمين أنهم حادوا عن الصواب . ثم لو أردنا أن نأخذ حديث التكاثر على محمله, فهناك تساؤل جائز ومطلوب هو .. هل التكاثر المطلوب هو تكاثر تراكمي بمعنى مجمل الأمة في كل الأزمان والأماكن؟ .. أم هو عهد على فئة محددة بزمن ومكان ؟.. فإن كان الأول فإن التكاثر خاضع لتكتيكات استراتيجية مرحلية حيث يكون لازماً على الأمة في حالة قدرتها على إنتاج النوعية المنشودة ويكون محظوراً على الأمة في حال ضعفها عن إنتاج سوى ذلك الغثاء , أما إذا كان في الثانية فهو لا شك وبصورة منطقية مراد به تكاثر الفئة القادرة على نشر الإسلام إبان انطلاقه وهم أصحاب واتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأنا أميل إلى أن التكاثر منشود للأمة بشموليتها الزمنية والمكانية , لذا أرى أن يخضع لتلك التكتيكات التي تضمن إخراج الأمة القادرة على تحقيق فخر الرسول الكريم بها.
إن ما يجب أن يلتزم به المسلمون في سبيل إرضاء رغبة رسولهم الكريم وتحقيق حياة كريمة لهم هو المنافسة مع باقي الأمم في هذا العالم الذي يصغر كل يوم وتحتك به أكتاف المختلفين, فموارد الأرض الطبيعية تقل كل يوم ويحصل عليها القادرون بأبخس الأثمان ويكد غيرهم لتحقيق ما يسد رمقهم والجميع في منافسة لضمان المعيشة الكريمة والتمتع بالصحة والسعادة وتتنافس الأمم في إبراز منتجاتها الحضارية وقيمها السامية التي بها تبرز احترامها لموهبة الله للإنسان حيث يتجلى ذلك في احترام مخلوقاته وإبقاء البيئة التي نظمها في توازن بحيث تستمر في عرض الجمال والإبداع الذي أراده الله. والدعوة لمكاثرة المسلمين دون مراعاة لواقع بلدانهم تمثل اختزالا للفروق الديموغرافية والجغرافية والكيانية فلا شك ان تكاثر المسلمين في إندونيسيا يمثل تحديا لتوزيع الموارد على السكان، وكذلك في نيجيريا ومصر وباكستان، الهند وفي حين يمثل تحديا تربويا لبلدان مثل دول الخليج العربي وبروناي. وأنا لن أضيف لهذا المقال الإحصاءات فهي متوافرة بمجرد البحث عنها من خلال الإنترنت ولكني سأكتفي بدلالات تلك الإحصاءات, وسأكتفي بعرض ثلاثة أمثلة لواقع ثلاثة مجتمعات إسلامية لإيضاح موقفي, الأول يخص دولة مسلمة تقوم عليها حكومة مسلمة وتعاني أزمة قلة الموارد نسبة لسكانها وهي باكستان، والثانية دولة تحكم بنظام علماني جل القائمين عليه من غير المسلمين أرادت تغيير واقع مواطنيها وهي الهند، ونظام ثالث يتكاثر المسلمون المهاجرون فيه بصورة مثيرة للاهتمام مقارنة بسكانه الأصليين ويتعرضون لضغوط تجبرهم على التخلي عن خصوصيتهم وهي فرنسا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي