لا ليسوا هم بأغبياء!

قرأت مرة في صحيفة أن مستشرقا يابانيا مشهورا زار صديقا له عربيا في إحدى الدول العربية, وعندما دخل هذا المستشرق الياباني شقة صديقه العربي أخذته الدهشة بما رأى عليه الشقة من تنسيق وأناقة ونظافة وترتيب, فما وجده في الشوارع والأزقة والممرات حتى في مدخل العمارة وممراتها كان العكس, فمشكلتنا كما يراها هذا الياباني أننا شعوب لا نهتم ولا نعطي قيمة للممتلكات العامة, فكل منا يريد أن يصنع مملكته وأن يعيش جنته الخاصة به, أما خارج ذلك فهو ينادي ويطالب بأن يكون هناك اهتمام ولكنها مسؤولية الآخرين وليست مسؤوليته.
الشأن العام والاهتمام بالممتلكات العامة هي من الأمور التي خذلتنا فيها الثقافة العامة, فكل ما هو عام فهو مباح لنا, فالطفل لا يجد في داخله ثقافة تردعه عن العبث بما هو موجود في الشارع من تكسير للمصابيح أو خربشة على الجدران, والسائق مهتم بنظافة سيارته, وبالتالي فهو لا يفعل منكرا عندما يرمي الأوساخ وأعقاب السجائر وبقايا الأكل في الشارع, وترانا لا نجد من الثقافة ما نتكئ عليه لنستنكر على أنفسنا ونحن نترك أماكننا في الحدائق العامة وعلى الشواطئ من غير أن نكلف أنفسنا بتجميع مخلفاتنا وبقايا سفرتنا لنضعها في الأماكن المخصصة لها وهي لا تبعد عنا إلا أمتارا قليلة. وعندما نجد طلاب المدارس وهم يستبيحون مدارسهم بالعبث والتكسير والتخريب وكأن هناك رغبات قوية مدفونة تدفعهم للانتقام من هذا المكان, فهذا يعني أن ثقافتنا فشلت فشلا ذريعا في أن يكون لها دور في تعزيز انتماء هذا الطالب لمدرسته. وهذا الانتماء المفقود نفسه نجده عند ذلك الطالب الجامعي الذي كسر بيده نافذة كليته الجديدة ليناول زميله كوب الشاي لأنه لا يريد أن يتعب نفسه ويدخل البيوت من أبوابها.
ويتأكد لنا هذا الخلل في عدم اهتمامنا بالشأن العام والممتلكات العامة في بناء ثقافة المجتمع عندما نجد المباني العامة وهي تشيخ وتتداعى أجزاؤها ويصيبها الوهن في أجهزتها وأنظمتها وهي في طفولتها. بل يتأكد هذا الأمر على الرغم من عدم إحساسنا به, وذلك عندما يوصي الموظف عامل النظافة بأن يذهب لغسل وتنظيف سيارته ولا يعطي بالا لتنظيف المكتب الذي يعمل فيه. حتى مساجدنا التي هي أعلى وأقدس من أن نضمها إلى قائمة الممتلكات العامة لأنها بيوت الله تعاني هي الأخرى إهمالنا لها وعدم اهتمامنا بنظافتها لأننا مع الأسف لا نشعر بالانتماء إليها على الرغم من أننا نرتادها مرات عديدة في اليوم الواحد.
هذا الوهن الثقافي الموجود في داخلنا الذي جعل من العام أمرا هامشيا وغير جدير بالاهتمام عندنا تراه حتى عند صاحب القرار الذي لا يهتم ولا يحرص على أن تبنى منشآته أو المبنى العام بأجود المواد وأحسن الأنظمة وبأفضل الطرق والنتيجة أن نحصل على أقل بكثير جدا مما خططنا له وصرفنا عليه. أما بخلنا وعدم إدراكنا أن نفقات الصيانة بنوعيها التشغيلي والوقائي هو من ضرورات الحفاظ على الممتلكات العامة لأطول فترة ممكنة وبأحسن حال فهو الآخر ينم عن عدم وجود ثقافة ترشد تفكيرنا وسلوكياتنا في التعامل مع العام. قد يستغرب البعض إهمالنا موضوع الصيانة, وأغلبية مديرينا اليوم من المهندسين وأصحاب الشهادات الجامعية في الإدارة وغيرها إلا أن هذا يؤكد أن التعليم شيء والثقافة عالم آخر وأن الثقافة هي التي تسير التعليم حسب ما عندها من قيم ورؤى.
وترانا نشتكي كثيرا من أن الموظف عندنا لا يدرك أن وظيفته في تقديم الخدمة للعموم والآخرين, فثقافتنا العامة صورت لنا الوظيفة على أنها فرصة لتحقيق ذواتنا من خلال ممارسة السيطرة والتحكم في الآخرين وليس عن طريق خدمتهم. وبهذه الثقافة نفسها وبهذه النفسية نفسها المتورمة بالأنا والفردية نفرح بتعيينا وتنصيبنا مديرين لأن هذا المنصب سيعطينا فرصة أكبر للتعبير عن رغباتنا المدفونة لتضخيم ذواتنا على حساب الآخرين والقضايا العامة. ليس بمقدور المدير أو المسؤول أن ينجح في مهمته ويتلمس حاجات المواطن والمجتمع ويرتقي بالخدمات المقدمة له وهو مكبل بثقافة أن المنصب هو من سيخدمه وليس هو من سيخدم المنصب. فمن لا يجر القرص إليه لا يفهم ولا يعرف من الحياة شيئا, أليس هذا من الأمثال التي نتداولها؟ حتى الفساد لو تتبعنا أسبابه لوجدناها تنتهي عند بلاط صاحبة الفخامة الثقافة, فما دام الخاص متقدما بكثير على العام, وما دام العام مجهول المالك وليس هناك من يسأل عليه إلا من يريد أخذه أو سرقته, وما دام العام مشردا ومسكينا حتى إذا أردت الدفاع عنه ورفع مظلوميته وإرجاع حقه جاءك الجواب بألا تتدخل فيما لا يعنيك, أو أنك تواجه باستهجان لأنك في نظرهم تريد أن تظهر الصلاح وأنت فاسد مثلهم, فكيف لا يجد الفساد بيئة صالحة عندنا؟
وبهذه الثقافة فليس من المستغرب أيضا أن تتأخر مجتمعاتنا عن اللحاق بالمجتمعات الأخرى في ميدان العمل التطوعي وحتى العمل الخيري, فقد يعتقد البعض أن تديننا يكفي بأن يجعلنا أكثر شعوب العالم حبا للعمل الخيري ولكننا نكتشف أن الشعوب والمجتمعات العلمانية واللادينية أكثر منا حبا بكثير لفعل الخيرات. أولا لأن قراءتنا الثقافية لتعاليم ديننا جعلتنا لا نعرف من أعمال الخير إلا ما له صلة واضحة وصريحة بالعبادات, هل ترانا سنهب ونتبرع للحفاظ على حديقة عامة طالها الإهمال؟ وهل ترانا سنعطي وبعنوان العمل الخيري وليس الدعائي لدعم نشاطات علمية أو ثقافية أو حتى اجتماعية يعود نفعها على العموم؟ ثانيا ثقافتنا لا تطمئن بسلامة العمل التطوعي, وهذا مما يستدعي إصلاحه في ثقافتنا, نعتقد أن العمل التطوعي وبما أنه تطوعي فهو ليس في حاجة إلى تنظيم وحسن إدارة وشفافية ورقابة ومراقبة لأن المتطوع يعتبر هذه الأشياء تشكيكا في نواياه وعدم ثقة بما يقوم به, فهو لا يشعر بأن ما يقوم به هو جزء من مسؤوليته أمام مجتمعه بل ربما يراه تفضلا منه على مجتمعه, أو أنه فرصة للظهور والبروز في المجتمع.
ليعذرني القارئ عن كل هذه المقدمة الطويلة, فقصة هذا المقال أنني تعرفت على شاب مسلم أثناء توقفي في عاصمة أوروبية, واستخدمنا القطار لزيارة وسط المدينة بعد أن اشترينا تذكرة الذهاب والعودة من المحطة, وبعد العودة إلى الفندق صاح هذا الشاب المثقف إسلاميا أنهم أغبياء, لم يسألنا أحد عن التذكرة لا في ذهابنا ولا في عودتنا ولم نجد أثرا لأحد يسأل الركاب عن تذاكرهم, يا ليتنا وفرنا على أنفسنا ولم نشتر التذاكر, ولكن حمدت الله عندما سبقني زميلنا الآخر وصاح في وجهه لالالا ليسوا هم بأغبياء, هم يعرفون قيمة الممتلكات العامة وهذا القطار هو من ممتلكاتهم العامة ولو سألت الركاب في ذلك القطار لوجدتهم كلهم عندهم تذاكر لأن عندهم ثقافة تجعلهم أحرص على بقاء هذا القطار وهذه الخدمة العامة, فالشأن العام عندهم مساو للشأن الخاص إن لم يتقدم عليه في كثير من الأحيان, نعم وألف شكرا لهذا الزميل وهو صادق فيما يقول, فهم ليسوا بأغبياء.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي