الأنانية الواعية
كان يرقبني من الطاولة المجاورة وأنا أتصفح ''الاقتصادية أون لاين'' في مقهى يتوسط مركز ستانفورد التجاري في (بالوالتو- كاليفورنيا), وعندما شعرت بفضوله التفت إليه وحييته بابتسامة، فبادلني ذلك وأضاف متسائلاً فيما إذا كنت إيرانياً، فقلت له إن حدسه غير بعيد، فأنا من السعودية، فأومأ برأسه معتذراً وهو يقول ''يبدو أنني ما زلت أجهل الفرق بين العرب والفرس مع أن جذورهم العرقية مختلفة''، فقلت لا عليك، نحن أهل المنطقة نكاد لا نفرق بين كثير من قوميات الشرق الأوسط نظراً لاختلاطهم بالأنساب على مدى قرون . عدل جلسته باتجاهي قائلا ''لطالما كنت مأخوذاً بغموض العلاقات بين أمم الشرق الأوسط فهي على ثرائها الروحي والتاريخي وعمق ترابطها الثقافي والعرقي تبرز للملاحظ المتابع لتعايشها كما لو كانت أمما متعادية يطمح بعضها لإبادة الآخر, أقول هذا وأنا أخشى أنك في قرارة نفسك ربما تسخر من انطباعي، وتعتقد أنه سطحي، مع أنني في الحقيقة ملم بكثير من الأدبيات الدينية والتاريخية في الشرق الأوسط وأطرح كثيرا من التساؤلات على بعض من طلابي من العرب والإيرانيين وحتى اليهود الإسرائيليين، وأجد في ردودهم كثيرا من التناقض والتضليل وهو ما يحيرني، مما يجعلني أعتقد أن هذا العداء بين تلك الأمم هو جزء من تقاليدها، لا أحد يعرف كيف بدأ ولا أحد لديه الرغبة الحقيقية في إصلاحه''. تبسمت وقلت له إن ما أخشاه أنا هو أن تظن أنني إما مضلل أو مدع، لذا لن أضيف لحيرتك مزيدا، ولكن علي أن أقر بأن التناقض الذي يبدو لك في علاقات أمم الشرق الأوسط، تأسس على تراث من الصراعات الممتدة في عمق التاريخ، وكل من تلك الأمم يختار من حقب التاريخ ما ساد فيه عطاؤه الحضاري ليبرز أحقيته فيما يدعي، فيبدو لك ذلك مضللا، وتبعاً لذلك التبادل في السيادة التاريخية تأسس العداء وأصبح إرثا ارتبط بكثير من التراث الثقافي لتلك الأمم ويصعب الانقلاب عليه فهو مكون من مكونات الهوية القومية لكل أمة. نظر لي نظرة المتفحص وقال ''هل نلت تعليماً في أمريكا؟'', فقلت نعم، ''إذا أنت تعلم أننا في أمريكا نحن المهاجرين قد أتينا من أصقاع الدنيا – لا شك أن جلنا من المهاجرين الأوروبيين - وقد جلب كل منا معه إرثه الثقافي والديني وجلبنا تبعاً لذلك عداءاتنا ونعراتنا وتعاركنا على مدى قرون من الزمن قتل بعضنا بعضا واستعبدنا بعضا، ولكن في نهاية الأمر تغلبنا على ذلك وخلقنا أمة نفخر بأنها متعددة الأعراق ومختلفة المعتقدات ولكنها موحدة بالانتماء لهدف واحد، وهو تحقيق الرغبات الأنانية لكل طامح، فبتنا ننشد المستقبل وتركنا الماضي كذكرى لا يمثل الكثير من هويتنا القومية، وهو ما يبدو لي صيغة جيدة للتعايش في الشرق الأوسط''.
حديثنا أفضى لشجون كثيرة، اتفقنا ببعض واختلفنا ببعض، وبعد أن تركت صاحبي، تردد في ذهني من قوله ''إن الأنانية الفردية هي القيمة الأسمى للمجتمع الأمريكي وإن ما حققته الولايات المتحدة الأمريكية من ثراء حضاري واقتصادي ما هو إلا محصلة تفعيل تلك الأنانية''. كنت أتساءل، كيف تكون الأنانية وهي ما نمقته في مجتمعنا مصدر قوة لبناء أكبر اقتصاد في الدنيا؟ صحيح أننا دائماً نعيب على المجتمع الأمريكي فرديته وكون دستوره وقوانينه تمكن الفرد على حساب الأسرة والجماعة، وهذا يمثل تفكيكا للمجتمع المبني على قيم حضارية راسخة، فلا سلطة للدين ولا سلطة للقبيلة ولا سلطة للعائلة ولا الأعراف التي نظمت تلك المجتمعات قرونا من الزمن، ولكن، ربما أن بناء دولة من المهاجرين كان يستلزم ذلك حيث لا سيادة لفئة على أخرى، ولتكوين مجتمع ينصهر وينتمي بكل تناقضاته وخلفياته إلى كيان جديد لا يقوم على وحدة القومية أو الدين أو العرق استلزم تكسير تلك الروابط القديمة أو إضعاف تأثيرها وسن دستور يمثل قيما جديدة فردية في طابعها تطلق قدرات الإنسان الكامنة وتكون روابط جديدة جامعة للمجتمع، لقد نجح الأمريكيون من خلال تكوين المجتمع الصهير Melting pot Society في خلق دولة هي بلا منازع القوة المهيمنة في العالم، وهي أكبر مصدر للإبداع الحضاري والفني والتقني، وهي كذلك الموطن الذي تمارس فيه الحرية في كل صورها فكل حر وله حق الاختيار في معيشته ومعتقده والتعبير عن ذلك بالصورة التي يقبلها المجتمع. إن الأنانية التي عبر عنها صاحبي هي التي أنتجت ذلك كله، فالأمريكي أناني في سعيه لتحقيق طموحه وهو يدرك أن الآخرين أنانيون في مسعاهم لذلك أيضا وهو على يقين بأن جميع تلك الطموحات تتنافس فيما بينها، وهي بذلك تحتاج إلى تنظيم يضمن السيادة للطموحات الأفضل منهجاً وبناء وتأهيلاً، لذا انصب هم القائمين على تكوين المجتمع في بناء منظومة عدلية قانونية صامدة بما سخر لها من فكر ودعم معنوي ومادي وبما وظف لها من موارد وإمكانات تنفيذية، حتى باتت أمريكا الدولة هيكلا قانونيا هائلا يقوم على دستور جليل الشأن وكم هائل من القوانين والتنظيمات والتفسيرات والتعليقات وباتت صناعة القانون في أمريكا من أشرف المهن وأكثرها تحقيقاً للثروة.
الأنانية السائدة في الولايات المتحدة هي الأنانية الواعية المسؤولة، وهي تلك التي تجعل من صاحبها متحفزا لممارسة حقه الفردي في تكوين وصيانة ذلك النظام الذي ييسر له تحقيق طموحه ضمن الأطر التي ساهم هو في تكوينها، وهو بذلك يراقب المسؤولين عن صيانة وتنفيذ تلك الأطر ويلاحظ أثرها من حيث كونها ممارسة فردية أو محصلة لممارسة عامة فيطالب أو يعارض تعديل تلك الأطر، وهو يدرك أنه صاحب رأي ذي قيمة فيبادر للتعبير عن ذلك، ومن خلال هذا التفاعل المستديم يتعلم المجتمع الأمريكي بصورة فردية وجماعية من الممارسات والأخطاء، مما يجعله بصورة مستمرة يجتهد في تعديل تلك الأطر التي تحكم تنافسه تبعاً للقيمة الأسمى وهي الأنانية الواعية. إن الحديث مع صاحبي الأمريكي جعلني أفكر وأحتمل أن نفكر في منطقتنا بالأسلوب نفسه، حيث نعتمد الأنانية الواعية ثم أتوقع ماذا سيحدث لو أننا نجحنا في تطبيق ذلك، وأتساءل هل سنكون قادرين على احترام تنافسنا في تحقيق طموحاتنا ضمن أطر قانونية تشرع تعايشنا بعدل دون أن نستدعي العصبية القبلية أو التأثيرية العاطفية لوحدة المعتقد المذهبي أو شفاعة ذوي السلطان والجاه؟ وهل سيقبل بعضنا بسيادة طموح البعض الأفضل من حيث الإعداد والتنفيذ دون استنفار الأحقية الاحتكارية التاريخية والإرث المقدس؟ وهل سنكون قادرين على التخلي عن الأحلام الخيالية في استجلاب سيادات الماضي السحيق بقالب ضعيف التكوين الفكري والمادي؟ وهل سنجد من خلال ذلك وسيلة للنظر للمستقبل وإطلاق قدرتنا المقيدة بكبائل الإرث التراثي البائد؟ وهل سيكون الفرد فينا مدركاً لقيمة وعيه فلا يعرض صوته أو رأيه في سوق نخاسة الفكر المحلي؟ ألا يجدر بنا أن نعي أن الله خلق كلا منا فرداً وحمله أمانة حراسة الفضيلة في المجتمع كفرد وسيحاسبه بعد ذلك كفرد؟ ألا يجدر بنا بعد ذلك أن ندرك أن الفرد فينا يجب أن يعيش حياته كفرد يمارس أنانيته ولكن بوعي ومسؤولية؟