صناعة تقدير الذات: على أي أساس؟

(أحب نفسك أولاً) .. (كلنا مميزون) ..(كن واثقاً من نفسك: رحلة من نقد الذات إلى تمجيد الذات)، كل هذه عناوين لكتب تلقى رواجاً هائلاً في العالم وغيرها الكثير مما يعزف على النغمة نفسها، إضافة طبعا إلى الدورات التدريبية وورش العمل والمحاضرات .. حتى إن البعض أصبح يسميها صناعة: صناعة تقدير الذات، على وزن صناعة السينما والموسيقى وما شابه .. وطبعا إطلاق لفظ صناعة يعني أن هناك من يكسب منها، وأيضا يعني أن علينا التوقف قليلا لتقييم ما تقدمه لنا هذه الصناعة بمعزل عن الجوقة التي تصفق لها وتمجدها.
ويسهل الاطلاع على تاريخ انفجار هذا المفهوم (تقدير الذات) في الولايات المتحدة بالذات ومن ثم العالم كله وتأثيره في أوجه كثيرة ومهمة في الحياة مثل التعليم وتربية الأطفال وجميع مجالات الصحة النفسية والعقلية، فهذه المعلومات متوافرة وموثقة، وما يعنينا منها هنا هو الافتراضات التي انبثقت عن الاهتمام بهذه الفكرة ومدى نجاحها في اختبار الزمن. ومن تلك الافتراضات (التي قُدمت على أنها مسلمات، وهذا أول خلل): إن التقدير العالي للذات هو من أهم عوامل (أو أهم عامل) في نجاح الإنسان وتفوقه وسعادته، ويقابله افتراض أن التقدير المنخفض للذات وراء فشل الإنسان وتعاسته وإجرامه وإدمانه وتقريبا كل تصرفاتة السلبية. وقد ثبت بالدراسات والتجارب على مدى السنين والعقود أن هذين الافتراضين لا يطابقان الواقع على الإطلاق. ففي حين أن هذا قد يفسر بعض الحالات الفردية (وحتى هذه الحالات الفردية لا تثبت الافتراض لأنه ثمة عوامل أخرى وأقوى من قلة تقدير الذات تسهم في الفشل أو الإجرام إلخ) إلا أن أغلب الحالات لا علاقة لها بموضوع تقدير الذات بقدر ما لها علاقة بالمثابرة والبيئة والتربية والقيم والقدرة على ضبط النفس .. إلخ. إذن فإن التسويق لهذه الأفكار البعيدة عن الدقة هو نوع من التبسيط الساذج للأمور أو التضليل الذي يعتمد على أن الناس تحب التفسيرات المبسطة والموحدة، وفي الحالتين لم تُحَل المشاكل التي تخيل مروجو تقدير الذات أن زيادة حب الناس لأنفسهم ستحلها.
ولكن هل المقصود مما سبق أن كره الذات واحتقارها أفضل؟لا يمكن أن يُفهَم ذلك،إلا إذا كان يُفهم من انتقاد المفهوم الخاطئ للوطنية – مثلا - على أنه رفض لها أو تقليل من شأنها.. فالمقصود إذن هو إقرار تقدير الذات والثقة بالنفس ولكن بالمعايير الصحيحة والمفهوم السليم والحجم المناسب الذي تأخذه بين قيم الإنسان وأولوياته. أما ما يروج له نجوم حركة تقدير الذات من تقديس للذات ورفعها فوق مكانها بل تأليهها والعياذ بالله في حالات كثيرة، فقد أثبت فشله في المدارس وفي التربية وفي مجال العلاج النفسي، فبدلا من أن يساعد الناس على أن يصبحوا أفرادا أصحاء أسهم في تغذيتهم بالأوهام التي تعيقهم عن التعامل الواقعي مع الحياة بحقائقها، كما أثمر الكثير والكثير من النرجسية والتقدير العالي للذات (على غير سنع) كما يقال .. ولِنكمل الحديث عن الافتراضات التي بُنِيت عليها هذه الصرعة في الأسبوع المقبل، نسأل سؤالين: هل معظم الناس لا يقَدرون ذواتهم؟ وهل من المطلوب أو المرغوب أن يكون تقدير الإنسان لنفسه عاليا في كل الأوقات وفي كل مجالات حياته؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي