كوارث عالمنا ليست سوى نتاج للفهم الخاطئ لفلسفة الندرة! (1 من 2)
تعلمنا ونعلم أبناءنا الطلاب في مبادئ علم الاقتصاد، بأنه علم الندرة Scarcity، أي أنه لولا ندرة الموارد في مقابل الحاجات المتعددة لما كان هناك علم للاقتصاد، فما الحاجة إلى علم ينظم تخصيص الموارد في ظل الوفرة؟ ننطلق دائماً في مؤلفاتنا من نظريات وضعية تجسد وتوضح بجلاء كيف أن الموارد المتاحة غير كافية لتلبية الحاجات المتعددة. وتعد نظرية السكان لروبرت مالتس، أفضل مثال يجسد الرؤية الوضعية في الندرة، والتي تختلف كلية عن رؤية الإسلام لها على النحو الذي سنعرض له ـ إن شاء الله. فالرؤية الإسلامية في مسألة الندرة – بحسب فهمي كباحث – تشكل كنزاً ثميناً، سيذهل الآخرون بمعرفة سره، وهو اجتهاد مني أسأل الله التوفيق والسداد فيه.
لن أدخل في تفاصيل نظرية مالتس عن السكان، ولكنها ببساطة شديدة لمن لم يسمع بها، نظرية وضعها اقتصادي إنجليزي شهير، من رواد الفكر الكلاسيكي، حاول من خلالها وضع تفسير للتوازن في الاقتصاد من خلال نظريته في السكان Mathis Population Theory، انطلاقاً من مُسَلَمة؛ ''وهي أن الموارد المتاحة في الطبيعة غير كافية لتلبية حاجات البشر. وتفسير مالتس قائم على أساس وضعي راسخ وهو ''أن الموارد التي تجود علينا بها الطبيعة تنمو بمتوالية حسابية أي 1، 3، 5، 7، في حين أن السكان يتزايدون بمتوالية هندسية أي 2، 4، 8، 16.. وهكذا. إذاً، المحصلة هي فجوة بين أعداد السكان والموارد المتاحة.
في ضوء هذه الفجوة التي تتعمق بمرور الزمن بين الموارد والسكان، فإن البشرية تجد نفسها أمام خيارين؛ إما التحرك طوعاً لتحقيق هذا التوازن، من خلال تحديد النسل باستخدام الموانع الطبيعية والطبية، وإما عليهم أن يقبلوا بقانون الطبيعة، ومقتضى قانون الطبيعة، أنه عندما يزيد عدد السكان عن الموارد المتاحة، فستنشأ بينهم الحروب والنزاعات والمجاعات والأوبئة... إلخ، وجميعها ستقضي على الخلل (بين الموارد النادرة والسكان)، بموت الملايين، إلى أن يتحقق التوازن بين عدد السكان والموارد''.
لن ندخل في تقييم هذه النظرية الساذجة التي انتقدها الغربيون أنفسهم، لأن المآخذ كثيرة وإن كانت لا تزال تحظى بشعبية حتى يومنا هذا من خلال ما يطلق عليهم المالتسيون الجدد، ولكن فقط سنربطها بما شهده – ويشهده - عالمنا من صراعات على مدى القرنين الماضيين، انطلقت شرارتها من الخوف من الندرة، والسعي لتأمين الموارد التي تكفي لتلبية الحاجات الحالية والمستقبلية. وإلا: فلماذا غزت بريطانيا العالم؟ حتى باتت يطلق عليها الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس؟ ماذا عن الإمبراطورية الإسبانية والبرتغالية والفرنسية والرومانية ومن قبلهم إمبراطوريات العصور البائدة؟ بل لماذا تحرك بوش لغزو العراق؟ لاشيء غير النفط والسيطرة على مقدرات منطقتنا من خلال ضرب ''المربوط ليرهب السائب''. مؤكدا أن المبررات تتعدد ولكن لا يمكن لأي محلل جاد أن ينكر هذا البعد الخفي وراء تحركات تلك الإمبراطوريات التي استنزفت ثروات البلدان المحتلة. إنه قانون الغابة، وإن حاولنا تغليفه وتجميله بمسميات رنانة ومنمقة. فالأمريكيون ابتزوا العالم وتوسعوا في ترفهم من جيوب وعلى جماجم الآخرين، وماذا كانت المحصلة؟ الانهيار والأزمة.. وستتوالى أزمات البشرية، وسنظل نعايش هذا الصعود والهبوط في الأنظمة الوضعية طالما بقيت الإنسانية غارقة ومؤمنة بتلك المفاهيم الساذجة.
نعم، في ظل هذا الفهم القاصر لفلسفة الوجود على الأرض، والفهم المشوه لمسألة الندرة، لم يكن علينا أن نتوقع أقل من تلك الكوارث والحروب والصراعات التي راح ضحيتها الملايين، وأهدرت في سبيلها الموارد التي نتشدق بندرتها. سنظل نعايش هذه الفوضى البشرية والفكرية ما لم نفتش وننقب فيما بين أيدينا من كنز ثمين، وهو كتاب الله وسنة نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. فقد اؤتمنا كمسلمين على حمل رسالة رب العالمين إلى العالمين، ومن واجبنا أن نُخلص في حمل هذه الأمانة.
وبناءً عليه، ومن خلال فهمي - كاقتصادي مسلم - لما ورد في كتاب الله وسنة نبيه، تمكنت من التوصل إلى ما يمكن أن أسميه ''مشروع نظرية إسلامية لقضية الندرة''. مؤكدا أن العشرات من أساتذتي العلماء كتبوا قبلي عن قضية الندرة، وكيف أن نعم الله لا تعد ولا تحصى، واستندوا في استدلالهم على الوفرة إلى عشرات بل مئات الأدلة من كتاب الله وسنة نبيه وسيرة سلفه الصالح، ولكن جل ما كتب - مع تقديري الخالص – لا يرقى إلى مستوى النظرية العلمية، القائمة على تسلسل منطقي يمكننا من خلاله أن نحاجج النظريات الاقتصادية الوضعية بل نعين عالمنا على مواجهة التحديات خاصة بعد عجز الفكر الاقتصادي الوضعي عن الإتيان بجديد.
لقد انطلق فهمي لفلسفة الندرة من سورتين من كتاب الله:
(1) الأولى سورة الحجر (الآيات من 19 وحتى 21) قال تعالى:
''والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون، وجعلنا لكم فيها معايش ومن لستم له برازقين، وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم'' (2) الثانية سورة الذاريات (الآيات 56 وحتى 58)، قوله تعالى:
''وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون، إن ربك هو الرزاق ذو القوة المتين''. صدق الله العظيم.
راجعت مختلف التفاسير بشأن هذه الآيات العظيمة ووجدت تفسيرات قيمة ولكن هل يمكن توظيف هذه الآيات الكريمة لبناء نظرية اقتصادية تعين البشرية على الخروج من هذه الدوامة وهذا التخبط الفكري؟ هل يمكن أن ننطلق من تلك الآيات، فضلاً عن آيات أخرى وأحاديث لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، لنضع نظرية علمية منطقية تربط قضية الندرة بفلسفة الوجود على الأرض؟ في اعتقادي أن هذا ممكن، بل أؤمن بأننا نحمل بين أيدينا نظرية في غاية التشويق والإقناع، خاصة بالنسبة إلى غير المسلمين، الذين لا يقبلون إلا لغة العقل والمنطق والأسلوب العلمي في التفكير والتفسير والتحليل، خاصة في هذا التوقيت، فلن نحظى كمسلمين بهذه الفرصة التاريخية، حيث عجز النظريات الاقتصادية الوضعية في ظل أزمة الرأسمالية. أتوقف معكم عند هذه المرحلة من التشويق، على وعد ـ إن شاء الله ـ بالعرض لهذه الرؤية الممتعة، والتي أحسبها لبنة متواضعة ليبني الجميع عليها، فإن أصبت فمن الله، وإن أخطأت فمن نفسي والشيطان. وإلى أن نلتقي في المقال القادم ـ إن شاء الله.