هل العالم يعيش في صراع نفسي؟

لثلاث حلقات مضت كنت أكتب عن الأمراض النفسية التي ربما تصيبنا وتتأثر بها سلوكياتنا ونحن لا نعلم عنها, وارتأيت أن أتوقف لأعاود الكتابة مرة أخرى لاحقا بعد أن أغوص عميقا في عالم اللا شعور والعقل الباطن لأني من المؤمنين جدا بأن هناك في هذا العالم المترامي والبعيد عن تلابيب عقولنا طاقة هائلة لو استمد منها الإنسان نزرا يسيرا لهاله ما يستطيع فعله. فإذا كان العالم يبحث ويعمل ويرسل مركباته الفضائية ليكشف أسرار الكون من حولنا والأهم ليتعلم كيف يحصل على طاقة مستدامة ونظيفة يقيم بها حضارته على الأرض, فإن في داخله كون آخر وفيه من الطاقة والأسرار ما يفوق ما هو موجود في الكون الخارجي. وبينما أنا مشغول أقرأ وأكتب وأتأمل وأوجه ما عندي من مراصد إلى زوايا وخفايا هذا الكون الداخلي لعلي التقط نور نجم هنا أو إشعاع كوكب هناك, أو ألتمس حسيس مجرة بعيدة تتناثر في أرجائها ما قد يعجز عده من الكواكب والنجوم, أو لعله تصطدم مجساتي بجدار ثقب أسود ابتلع من أحزاني وذكرياتي المرة ومواقفي الصعبة ما قد ينشر علي ظلمة في نظرتي لبعض زوايا ومنحنيات الحياة, امتدت يد طويلة من عالم الوعي والشعور لتجذبني إلى عالمها وتحرمني متعة السفر والترحال في عالم أكاد أجزم أن فيه إطلالة على عوالم وليس عالما واحدا من القدرات والإمكانات اللامتناهية, ولكني وجدت نفسي وأنا أقرأ موضوعا يعيد ما يعيشه العالم اليوم من صراع إلى عالم النفس أيضا, فكل هذه الحروب وكل هذه الأزمة السياسية منها والاقتصادية هي ربما بسبب عوامل نفسية أكثر مما هي بسبب عوامل سياسية أو جيوسياسية أو اقتصادية, فالعالم كله اليوم مصاب بأمراض نفسية متعددة وما هذه الأزمة والحروب إلا تعبير وإرهاصات عن هذا التأزم النفسي. الحروب المشتعلة هنا وهناك سعرتها نفوس مضطربة وإن غلفتها بادعاءات قانونية وأطرتها بدعاوى المحافظة على المصالح والسلم العالمي, وأما الركود الاقتصادي الحالي فهو نتيجة لاكتئاب مالي تعيشه شعوب العالم, دولا وشركات وأفرادا, بعد حالة من الجنون عاشها العالم لمدة أكثر من عقد من الزمن وهو يضارب بكل شيء, بالموجود وغير الموجود وبالذي في باطن الأرض وبالذي على سطحها, وأما إفلاس الشركات الكبيرة منها والصغيرة ومسارعة الحكومات لأخذ زمام الولاية عليها قد يعني أن هذه الشركات قد وصل بها المرض النفسي إلى حد الجنون فبعثرت مواردها في مغامرات طائشة وصارت كما هو المجنون لا تعرف كيف تدير نفسها ولا تحسن كيف تدبر أمورها وصار من الضروري أن يوكل أمرها وولايتها إلى من هو قادر على أن يعيد لها رشدها وبعضا من توازنها, فإعلان الشركات إفلاسها هو كدخول الأفراد إلى المصحات العقلية والنفسية لإعادة تأهيلهم والدخول من جديد في معترك الحياة.
الحياة صراع مستمر ومن لا يريد أن يدخل في هذا الصراع فليتصل بوكالة الفضاء الأمريكية لتبحث له عن كوكب آخر يعيش فيه, ولكن هذا الصراع تتطور أدواته وترتقي أساليبه بتحضر الإنسان, التحضر حالة أوسع من التطور المادي والاقتصادي وأكبر حتى من التقدم العلمي, فالإنسان المتخلف متخلف حتى في أساليبه في الصراع وقد لا يعرف من أدوات الصراع إلا الطعن في الآخرين والعنف والقتل, وهذا الإنسان يدخل الصراع وهو يريد القضاء على الآخر والتخلص منه أو الاستحواذ عليه. أما الإنسان المتحضر فهو يمارس الصراع ويعيش السلم والاستقرار وينشد من صراعه مزيدا من الرقي والإبداع في الأفكار والأشياء والنظم, فصراع المتخلف هو هدم وتراجع وصراع المتحضر بناء وتقدم.
الصراع الاستعماري كان هو النوع الذي بدأ به عصرنا الحديث, كانت هناك دول قوية وجدت نفسها أمام عالم مفتوح غني بالموارد تنتظر من يستثمرها بل من يسرقها أو ينهبها, فدخلت هذه الدول القوية في صراع على من يستحوذ على مساحات أكبر واستعباد شعوب أكثر. كان صراع استحواذ واستعباد كانت نتيجته تعاظم هذه الدول القوية قوة ورفاها وتقدما. ثم جاءت مرحلة صراع القوة, كانت هناك قوى متعددة موازية لبعضها ومتعاكسة في مصالحها وكان لا بد من حرب كونية كبيرة تميل الكفة لبعضها على حساب الأخرى منها. ومن ثم دخل العالم في صراع بارد تتم فيه المناوشة والاحتكاك بالنيابة ولتتفرغ الدول المؤثرة فيه لتنمية نفسها اقتصاديا وعلميا وعسكريا. وبعد أن استنفد الصراع البارد زخمه وقوته بانهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومته الشرقية دخل العالم في صراع اقتصادي ومنافسة تجارية محمومة واستبشر العالم بهذا الصراع لأنه أتاح الفرصة لبعض الدول الفقيرة والضعيفة أن تقوي ذاتها وتطور من واقعها. ولما كان الصراع الاقتصادي وما رافقه من ثورة في الاتصالات والتواصل بين الشعوب كان هو الآخر لصالح الدول الأقوى والأكثر نفوذا فإنه أدى إلى ظهور ممانعة وتمرد على قيم ومعايير هذا الصراع الذي وجدته بعض الشعوب على أنه أكثر قساوة وتوحشا من الصراعات السابقة. وفي إطار ما ظهر من احتكاك بين الحراك الاقتصادي ورغبة الشعوب في الحفاظ على ثقافتها وهويتها الخاصة بها, خرج علينا صمويل هنتيجتون بفكرة ''صراع الحضارات'', فهنتيجتون يعتقد أن العالم مقبل على صراع ثقافي ولا بد من شن حرب أو حروب لهزيمة قيم وقناعات تشكل عائقا في طريق تقدم العالم ككتلة واحدة ومتفاعلة مع بعضها, وفي مقابل هذا الرأي رأى البعض أن الحضارات بطبيعتها لا تتصارع بل تتحاور إذا كان المقصود حقا هو تنمية العالم بفقرائه وأغنيائه.
ولكن الكاتب دومينك مويسي الذي ترجمت مقالته ''صراع العواطف'' في مجلة الثقافة العالمية يرى أن العالم فعلا قد خاض صراعا حضاريا وأن هذا الصراع دخل النفوس من بوابة الثقافة. العالم اليوم يعيش صراعا نفسيا وعاطفيا وانفعاليا أكثر مما يعيش صراعا سياسيا أو أيديولوجيا أو حتى اقتصاديا, فهذا الكاتب يسميه الصراع العاطفي ولعل الأصح أن نسميه الصراع النفسي وأن الدول تتصارع فيما بينها نتيجة لعقد ودوافع وربما حتى أوهام نفسية, فاختلاق عدو وهمي وغير موجود هو مرض سياسي نفسي يعبر عن نفس جمعية خائفة وقلقة من أن تباغت أو تهدد مصالحها. هذا الخوف هو الذي أنتج سياسة الحرب الاستباقية, وهذه السياسة اكتشف الدول التي أخذت بها قبل الآخرين ضررها الفادح. وهذا الخوف نفسه ولكن من نوع آخر يجتاح أوروبا اليوم وهي تراقب بقلق رغبة الملايين من فقراء العالم في الهجرة إليها والعيش على أرضها, فهؤلاء الفقراء يأتون بمعتقداتهم وثقافاتهم, وظهر أن هذه الثقافات تقوى في أجواء الحرية والانفتاح التي توفرها أوروبا لهم وهذا سيشكل تهديدا للثقافات المحلية وسيأتي بقيم ربما لا تستسيغها الشعوب الأوروبية. أوروبا خائفة من أن هذا الصراع الثقافي سيرتد عليها وستكون هي المستعمرة من قبل هذه الشعوب الفقيرة التي لا حول لها ولا قوة. أما نحن العرب والمسلمين فمن وجهة نظر الكاتب كذلك نعيش هذا الصراع النفسي والعاطفي كما يسميه, فشعوبنا في نظره تتفاعل مع العالم بعقدة الشعور بالذل والدونية, فتجاربنا المذلة الكثيرة جعلتنا نشك في أي شيء نريد تجربته من إنتاجنا أو مما تفد علينا خوفا من أن تزيدنا ذلة ودونية. فهذا الشعور بالذلة هو الذي جعلنا نخاف من المستقبل ونحتمي بالماضي, وهذا الشعور هو المسؤول أيضا عن جعلنا نبحث عن استرداد القليل من الشعور بالعزة والكرامة حتى ولو كان بانتصارات وهمية على بعضنا. وهناك منطقة في العالم استطاعت أن تنزع عنها ثوب الخوف وتتخلى عن العواطف التي تحركها أيديولوجيات وأفكار ليس لها جذور في الواقع واستبدلت كل ذلك بالأمل والثقة بنفسها وبقدرتها على تطوير نفسها, فدخلت هذه المنطقة بثقافة الأمل وها هي الآن تحصد من الثمار ما يؤهلها إلى أن تكون في مصاف الأقوياء في العالم.
هل فعلا يعيش العالم صراع نفوس ممتلئة بأوهام وعقد مريضة وعواطف متشنجة؟ وهل النظام العالمي فعلا في حاجة إلى نقاهة نفسية تزيل منه هذه الأوهام ليستعيد العالم أمنه واستقراره وتتاح الفرصة للشعوب للانفتاح على بعضها والتواصل فيما بينها؟ سؤال وإن كان من الصعب الإجابة عنه بإحاطة كاملة ولكنه سؤال يستحق الوقوف عنده والتأمل فيه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي