كيف نتعامل مع أمراضنا النفسية (3 من 3)

الآن وقد عرفنا ما هو المرض النفسي وعرفنا أن النفس عندما تمرض ينعكس ذلك سلبا على كثير من الأمور السلوكية والمزاجية في حياتنا, وتتبعنا بعض الأسباب والعوامل الشخصية والاجتماعية التي قد تمهد للإصابة بالأمراض النفسية, وعرفنا كيف أن المرض النفسي يبدأ مع الإنسان نتيجة لحاجة غير مشبعة في حياته لتتحول إلى عقدة نفسية تنتج منها سلوكيات مريضة, ولا يعني هذا أننا نحمل الحياة كامل المسؤولية عن أمراضنا النفسية ولكن جهلنا بهذه الحاجات غير المشبعة وتركنا لها من غير معالجة في وقتها هو الذي قد يحولها إلى عقد أو بؤر مرضية في نفس الإنسان. فطالما غيبنا الموضوع النفسي في تشكيل ثقافتنا العامة وعدم أخذها في الحسبان عند التأسيس لممارساتنا التربوية فسنبقى غير مدركين ولا واعين لما نعيشه من أمراض نفسية على المستويين الشخصي والاجتماعي.
أهم خطوة في علاج الأمراض النفسية هو أن نحسن من تعاملنا مع المرض النفسي كمفهوم ثقافيا واجتماعيا, فكيف لي أن أبادر وأطلب العلاج لمرضي النفسي وأنا أعيش خوفا ورعبا من الإقرار بهذا المرض لأني أعرف أن مجرد الإقرار به هو إدانة الإنسان نفسه بالجنون, فليس عندنا في ثقافتنا فرق بين المرض النفسي والجنون. وكيف لي أن أتعامل مع نفسي في مرضها وأنا أجهل ماذا يعني المرض النفسي, أليس الجاهل هو عدو نفسه بل ربما الجاهل هو أشد الناس عداوة لنفسه؟ فكثير من الأمراض النفسية البسيطة يستطيع الإنسان أن يتكفل بعلاجها بشرط أن تكون عنده معرفة ولو بحدها الأدنى عن النفس وأسرارها, وكيف للإنسان أن يقي نفسه المرض النفسي وهي ليست محل اهتمامه؟ فالغذاء للبدن والرياضة للبدن والتجميل للبدن والرعاية للبدن والعلوم والمعارف للعقل ولا يبقى للنفس إلا الخطب والمواعظ التي قد تفهم على أن النفس فقط موطن للفتن والنيات السيئة والشهوات والنزاعات الشريرة, فالعلاقة التي يراد لنا أن نكونها مع أنفسنا هي علاقة فيها توتر وخصومة.
فللثقافة دور في حمايتنا من الأمراض النفسية ولها دور أيضا في توجيهنا وترشيد خطواتنا في كيفية التعامل مع المرض النفسي الذي قد يصيبنا, وهناك كثير مما يقال في هذا الشأن ولكن تبقى الأولوية للأمور التي تساعد على تحصين المجتمع ككل وبمساعدتها هذه تسهل مهمة الفرد في التعامل مع نفسه ومع ما قد تتعرض له من أمراض. في النقاط التالية وقفة موجزة مع بعض هذه الأمور الثقافية الاجتماعية:
1- الاهتمام بالثقافة النفسية: نعتقد وهذا ما تشربنا به من ثقافتنا بأن إصلاح الإنسان هو في تدينه فقط, فوجهنا كل اهتمامنا للثقافة الدينية على أساس أن الأمور الدينية والأخلاقية هي الكفيلة بأن تنتج لنا الإنسان الصالح ونسينا أن النفس هي الأخرى في حاجة إلى توجيه ورعاية وتربية. النفس هي الوعاء الذي نصب فيه هذا الدين, فإذا كان هذا الوعاء متسخا وملوثا وغير نظيف فإن القيم الدينية والمثل العليا التي أراد الدين أن يسمو ويرتفع بها الإنسان تتلوث بفعل ما تعانيه تلك النفس من مرض وانحطاط. الاهتمام بالنفس وتثقيفها ليس كباقي الأمور والجوانب التثقيفية لأن بصلاح النفس تصلح أمور الإنسان الأسرية والاجتماعية ويصلح حتى تدين الإنسان في كثير من الأحيان. قد تقابل متدينا يعجبك حديثه عن الأخلاق والتسامح وأهمية التعاون وعند الاختلاف معه حتى في الأمور البسيطة تتكشف ما عنده من عقد نفسية وما يحمل من أمراض في نفسه, فالحديث عن الأخلاق من مهمة العقل, وأما السلوك والممارسات فمن اختصاص عالم النفس, فالعقل المتعلم والمتفقه مع نفس مريضة هو المسؤول عن جعلنا أكثر الأمم وعظا وأقلها عملا.
2- تعزيز الإنسان لياقته النفسية: للنفس كما للبدن عضلات وعظام وقدرة على التحمل, فالنفس قد تعاني هشاشة في عظامها وترهلا في عضلاتها وضعفا في بنيتها, وبالتالي فهي أضعف من أن تواجه ما تأتي به الحياة من مشكلات وصعوبات, فمجرد مشكلة بسيطة قد تدخل النفس الضعيفة في اكتئاب, ومجرد إخفاق ولو للمرة الأولى قد يعني للإنسان الضعيف نفسيا أنه فاشل وسيئ الحظ, فبعض النفوس الضعيفة تراها تفرح بالفشل وتتمناه لأنها لا تريد الدخول في مغامرة جديدة وعمل جديد يفرضه النجاح في العمل السابق. والنفس الضعيفة لا تتحمل النقد لأنها سهلة الكسر, فالمقصود بالنقد عندها هو تعريتها وتسقيطها والحط من كرامتها وتحت ضغط هذا الشعور السلبي قد ينكفئ الإنسان على نفسه وقد يهاجم نفسه ويؤنبها على مغامرتها وتعريض شخصه للنقد وقد يدفعه هذا الشعور السلبي للنيل من الذين انتقدوه في شخصياتهم ظنا منه أن هذا مظهر قوة قد يعيد له بعض الراحة لنفسه المتوترة. أما من عنده لياقة نفسية عالية فهو ينظر للمشكلات على أنها فرص يجب اغتنامها وللأزمات على أنها تحديات يجب أن يظهر كل ما يملكه من قوة للتغلب عليها, فالمشكلات والأزمات ليست سوء حظ بل هي نعم يجب أن يستثمرها. واللياقة النفسية يكتسبها الإنسان من خلال التواصل مع نفسه, فقد يشعر الإنسان بشيء من الحزن عند مواجهة مشكلة معينة ولكن من خلال الحوار مع نفسه يستطيع هذا الإنسان أن يحاصر هذا الشعور بالحزن بإثارة مشاعر الفرح في داخله, فإذا كان هذا الحزن بسبب نعمة فقدها فهناك نعم أخرى يجب الاحتفاء بها وشكر الله عليها.
3- أزمة التعبير عن النفس: هناك أمراض نفسية قد يبتلى بها الإنسان ويتحمل مسؤوليتها المجتمع بما عنده من ثقافة وعادات وتقاليد. ومن أهم هذه القضايا التي لها صلة قوية بالتمهيد للإصابة بالمرض النفسي هو المناخ الاجتماعي العام ومقدار ما يتيحه للإنسان من سعة وحرية للتعبير عن نفسه. فكلما كان هذا المناخ فيه تضييق وفيه شدة وفيه مراقبة ومحاسبة مبالغ فيها فإن هذا سيرتد سلبا على نفسية الإنسان وسيتسبب في نمو رغبات ونزعات تنتجها النفس المحتقنة التي لم يتح لها أن تعبر عما في داخلها وبشكل طبيعي. الطفل عندما يحاصر بقائمة طويلة من اللاءات وقائمة أطول منها من الأشياء المعيب فعلها فهذا ينتج لنا طفلا محتقنا في الداخل, وعندما يخاف الإنسان أن يناقش بعض ما يدور في مجتمعه من أفكار واجتهادات بحجة أن النقاش قد يثير بعض الفتنة والارتباك في عقول الناس فإن الناس هنا قد تنكمش نفوسهم لترتد عليهم بعقد نفسية تجعل من نفوسهم مريضة. كثير منا يستغرب مما نشاهده من تصرفات في طرقنا وشوارعنا, سرعة مخيفة وتجاوزات خطرة ومغامرات مجنونة, والنتيجة أننا أصبحنا من أكثر دول العالم في عدد الحوادث وأكثرها في نسبة الوفيات والإصابات والخسائر, ليس كل ما نراه تهورا وطيش شباب أو مراهقة متأخرة ولكنها قد تكون عقد نفسية أنتجها الحرمان من التعبير عن الذات, ويكفي أن ننظر لحال جامعاتنا لنجد هل فعلا يجد الطالب في أروقتها ما يشبع ما عنده من رغبات للتعبير عن نفسه. إن الإنسان عموما عنده رغبة قوية لكي يعبر عن شخصيته وتميزه وعلى المجتمع أن يستجيب لإشباع مثل هذه الرغبة وألا تتحول قوة هذه الرغبة المكبوتة إلى قوة سلبية تخلق مناخات مرضية في نفسية الإنسان. المهم جدا أن نعي أهمية وضرورة التعبير عن الذات في برامجنا التربوية ومناهجنا التعليمية وثقافتنا الاجتماعية لأن التعبير عن الذات هو أهم الطرق المؤدية إلى التوازن النفسي.
تبقى هناك أمور أخرى لها أيضا دور كبير في كيفية التعامل مع الأمراض النفسية وسيتم التطرق لها لاحقا إلا أننا إذا تجاوزنا الأمور التي تنطلق من الحالات الخاصة فإننا أينما ذهبنا في بحثنا عن هذه الأمور سنجد أن غالبيتها أو حتى كلها لها بعد ثقافي وأن الثقافة تلعب دورا كبيرا في معالجة الإنسان من أمراضه النفسية. وللحديث تتمة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي