دور الشركات العائلية في التنمية البشرية والاقتصادية

ينظر البعض إلى رؤوس الأموال الضخمة التي تمتلكها الشركات العائلية في دول العالم بصفة عامة، والدول العربية ودول الخليج منها بصفة خاصة، ويتساءل عمَّا أسهمت به هذه الشركات في تنمية بلدانها في المجالات البشرية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها من المجالات، ويتساءل أيضاً عن ماهية الدور الذي يجب أن تقوم به هذه الشركات، لتكون قادرةً بصورة أفضل على المساهمة في برامج التنمية عامةً في بلدانها، وبرامج التنمية البشرية خاصةً؟
مما لا شك فيه أن الشركات العائلية تقوم بدور فاعل ومهم في بناء ودعم اقتصادات الدول، وذلك منذ أمد بعيد، ومما لا شك فيه - أيضاً - أن الشركات العائلية ستستمر في القيام بهذا الدور الفاعل.
وكما هو معروف تاريخياً أن الشركة العائلية تنسب إلى اسم عائلة، أي إلى اسم شخص واحد، وهو عميد العائلة، أو إلى لقب العائلة، وقد تكتسب الشركة شهرتها من اسم العائلة، أو العكس، فقد تكتسب العائلة شهرتها من شهرة الشركة، وهناك حالات كثيرة تدلل على ذلك.
ومن صفات الشركة العائلية أنها – في أغلبية الحالات - شركة مغلقة على مُلاكها فقط، وقد انحصر التصنيف القانوني للشركات العائلية في عدة تسميات، فقد تكون الشركة العائلية (شركة ذات توصية بالأسهم) خاصة بأبناء العائلة فقط أو (شركة تضامن) أو (شركة ذات مسؤولية محدودة) أو (شركة توصية محدودة).
ولقد قامت الشركات العائلية – ولا تزال – بدور كبير في التنمية الاقتصادية الوطنية للبلدان التي تنتمي إليها، ولم يقلّ هذا الدور حتى في الدول المتقدمة صناعياً، ذات الشركات الضخمة! فلم يكن هناك تعارضٌ بين الشركات الكبيرة ذات رؤوس الأموال الضخمة والشركات العائلية، بل على العكس من ذلك، لم تستطع تلك الشركات الكبيرة أن تلغي أو تهمِّش دور الشركات العائلية، وإنما عملت على التعاون معها والاستفادة منها، وذلك بتوفير احتياجاتها الصغيرة والمتكررة الطلب عن طريق الشركات العائلية.
وتمثل الشركات العائلية مكانةً كبيرةً في اقتصادات كثير من دول العالم، بغضِّ النظر عن تنوع نهج هذه الدول الاقتصادي، ومكانتها على خريطة الاقتصاد العالمي، حيث تمثل الشركات العائلية النسبة الكبرى من إجمالي الشركات العاملة بالاقتصادات الوطنية لهذه الدول، وتبلغ نسبة الشركات العائلية في الدول العربية قرابة 95 في المائة من عدد الشركات العاملة، وفي السعودية تبلغ نسبة الشركات العائلية قرابة 95 في المائة من عدد الشركات العاملة.
ويقدر حجم الاستثمارات العائلية في الاقتصاد السعودي بقرابة 250 مليار ريال، وهناك 45 شركة عائلية تعد من ضمن أكبر 100 شركة في السعودية، تجاوزت عائدات هذه الشركات 120 مليار ريال في عام 2003م، وتقوم بدور مهم في عملية التنمية البشرية، وتسهم في العمل على الحدِّ من مشكلة البطالة بتوظيف العمالة السعودية، والعمالة الوافدة، حيث توظف هذه الشركات العائلية ما يقرب من 200 ألف شخص، وتعمل – عبر التوسعات في الأعمال والتطوير المستمر - على زيادة عدد الوظائف المتاحة، وهذا الدور يمثل قيمة اقتصادية واجتماعية كبيرة للمجتمع ككل.
والشركات العائلية السعودية لها نشاط تجاري كبير ومتَّسع، فالسوق التجاري السعودي سوق كبير ومهم في منطقة الشرق الأوسط، بل يعد من الأسواق الكبيرة على المستوى الدولي، وتتضح ضخامة هذا السوق من خلال إحصائيات الواردات والصادرات.
تعد الشركات العائلية حجر الزاوية في العديد من أوجه النشاط الاقتصادي المختلفة، كما أن هذه الشركات سجلت على مدار عمرها عديد من النجاحات والنمو، وواكبت التطورات العصرية الهائلة على المستوى البشري، بتنمية مهاراته الإدارية والتقنية، وذلك عن طريق التخطيط الجيد والمدروس لبرامج التدريب الحديثة والمتقدمة، أو على مستوى مواكبة التطورات التكنولوجية والاستفادة القصوى منها، ونقلها إلى أوطان هذه الشركات العائلية.
وعلى الرغم من كل ذلك نجد أن هذا الدور الكبير والمهم الذي تقوم به هذه الشركات لا يسلم من وجود نقص مهم وخطير يتعلق بالشركات العائلية ذاتها! ألا وهو إمكانية عدم استمرارية هذه الشركات، حيث إن من ضمن خصائصها أن عامل السلوك الإنساني والطبيعة البشرية قد يغلب على قرارات هذه الشركات في أوقات كثيرة، وقد ينتج عن مثل هذه القرارات المتأثرة بعامل السلوك الإنساني عدم الأخذ بوسائل الإدارة الحديثة، وعدم الاستفادة بأهل الخبرة من خارج نطاق العائلة، أو عدم الأخذ بمبدأ التدريب المستمر للعاملين المنتمين لهذه الشركة، أو عدم الأخذ بالوسائل التكنولوجية الحديثة في تطوير منتجات الشركة، تحت حجة تقليل النفقات! مما قد يعرِّض هذه الشركات إلى عدم مواكبة مثيلاتها، وعدم قدرتها على المنافسة، مفضياً في النهاية إلى انهيارها وخروجها من السوق!
وهذا ما دفع الباحثين في هذا الحقل إلى اللجوء للدراسات المتخصصة، من أجل تقدير الأعمار التقريبية للشركات العائلية، فتوصلوا إلى أن العمر الافتراضي لهذه الشركات هو 40 سنة تقريباً، وخلصت بعض الدراسات إلى أن واحداً من ثلاثة أنشطة عائلية يعيش حتى الجيل الثاني، ونحو واحد من عشرة أنشطة عائلية يستطيع المواصلة حتى الجيل الثالث!
ولكل ما سبق، يرى عديد من الخبراء والمختصين والمهتمين بشؤون الشركات العائلية أن هذه الشركات تقع بين فكرين أساسيين:
الفكر الأول: يذهب الخبراء أصحاب هذا الفكر إلى أن إدارة الشركات العائلية - وهي المكونة من أفراد من داخل العائلة المالكة لهذه الشركات - ترى أن الشركات التي تديرها ستبقى قادرةً على أن تحافظ على وجودها، بل وازدهارها ونموها، وعلى تطوير نفسها إلى الأفضل في جميع أنشطتها، سواء كانت فنية، أو معلوماتية، أو تسويقية، أو إنتاجية، أو خدمية. وتعتقد تلك الإدارات - أيضاً - أن هذه الشركات ستكون قادرة على تجاوز المشكلات والعقبات التي تواجهها، سواء كانت عقبات من داخل الشركات ذاتها أو من خارجها، ويبنون اعتقادهم هذا على أن شركاتهم تتمتع بخبرات كبيرة، تكونت من خلال ممارسات عملية طيلة سنوات عديدة، وأن هناك عادات وتقاليد تحكم العائلة المالكة للشركة، هذه العادات تفرض على جميع أفراد العائلة المساهمين في الشركة السمع والطاعة للجيل الذي يتولى إدارة الشركة، وأن هذا الجيل هو المنوط به التخطيط والإدارة والرقابة، وهو الذي يقود الشركة من نجاحات إلى نجاحات، وأنه سيورث الجيل التالي شركة ناجحة، وسيورثه أيضاً خبرات كبيرة تساعد على استمرار هذا النجاح.
الفكر الثاني: أما الخبراء أصحاب الفكر الثاني؛ فيرون أن مستقبل الشركات العائلية محفوف بالمخاطر والتحديات التي تجعلها مهددة بالانهيار، ومن ثمَّ التلاشي، وتشتمل هذه المخاطر على: مخاطر داخلية تتعلق بالتنافس العائلي بين أفراد العائلة للوصول إلى إدارة الشركة، بحجة إدخال أفكار جديدة وطرق حديثة لإدارتها، وهذا يُقابَل من القائمين الحاليين على الإدارة بالمقاومة، بحجة توافر الخبرات العملية لديهم، مما يجعلهم أجدر بالقيام بعملية الإدارة. وقد تتعلق – أيضاً - بسيطرة التعامل بالأسلوب (الأبوي) في إدارة الشركة. ومخاطر خارجية تتعلق بعدم قدرة الشركة على التطوير والتجديد، والأخذ بالأساليب والطرق الحديثة في الإدارة، الأمر الذي سيترتب عليه الحاجة إلى تمويل كبير قد لا يتوافر من داخل العائلة، مما يدفعها إلى الجوء إلى التمويل الخارجي، وما يسببه من إملاءات خارجية تؤدي إلى الاعتراض من جانب العائلة على مثل هذا التمويل.
وكي تتجنب الشركات العائلية كل هذه المخاطر، عليها ألا تكابر وتعتز بآرائها دوماً، بل عليها اللجوء إلى أهل الخبرة والمستشارين المتخصصين، سواء أكانوا من داخل العائلة أو من خارجها.
وعليها أن تسعى إلى تدريب (كوادر) إدارية - من داخل العائلة ومن خارجها - على أحدث أساليب الإدارة الحديثة، وذلك للاستعانة بآرائهم وأفكارهم المبنية على أسس علمية سليمة، وألا تقصِّر الشركات العائلية في هذا الجانب بحجة عدم زيادة النفقات، حيث إن توافر مثل هذه (الكوادر) داخل الشركة يوفر الكثير من تكاليف الاستشارات الخارجية! ويجب - أيضاً - على الشركات العائلية أن تميز - وبكيفية دقيقة - وتفصل ما بين الشؤون العائلية والشؤون الخاصة بالعمل، وألا تقوم بتعيين أفراد من داخل العائلة ليسوا من ذوي الخبرة، أو ممن ليسوا مؤهلين للقيام بالأعمال التي ستوكل إليهم، لأن مردود ذلك - بلا شك - سيعود بالسلب على الشركة في المدى البعيد، إن لم يكن في المدى القصير أيضاً.
وعلى الشركات العائلية – خاصةً ذات رؤوس الأموال الكبيرة – أن تجتهد في الدخول في شراكات استراتيجية مع الشركات التي أخذت منها توكيلاً تجارياً لتمثيلها - في دولة الشركة العائلية – وألا تكتفي بدور الممثل التجاري فقط، بل عليها أن تسعى إلى المساهمة في تطوير هذا المنتج المستورد، وأن تعمل على فتح أسواق جديدة، والأهم من ذلك أن تسعى الشركات العائلية إلى الاستثمار في الأفكار الجديدة، أو شراء (براءات الاختراع)، كي تنتج سلعاً أو خدمات تحمل علامةً تجاريةً خاصةً بها، مع الأخذ في الحسبان أن عملية الإنتاج الخاص - أو التطوير لمنتج قائم - تتطلب كثيرا من التمويل، وعديدا من الكفاءات البشرية، والإنفاق على البحث العلمي وهو الأمر المفتقد حتى الآن –إلا قليلاً – في الشركات العائلية.
وهذه الشراكة الاستراتيجية بين الشركات العائلية والشركات العالمية المصدرِّة لها عديد من المزايا، أهمها نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى بلداننا العربية من أجل التصنيع والتطوير، وهذا يؤدي إلى تدريب الأيدي العاملة المحلية على هذه التكنولوجيا المتطورة من أجل العمل بها، وهذا سيجعل من هذه العمالة عمالة ماهرة ومدربة، تكتسب الخبرات على أسس علمية سليمة، وتتنامى هذه الخبرات بمزيد من البرامج التدريبية، وبنقل الخبرات المتوافرة في الشركات العالمية، وهو ما سيكون له آثاره الإيجابية على التنمية البشرية والاقتصادية، وسيكون أفضل من اكتفاء الشركات العائلية بدور الممثِّل التجاري للشركات العالمية. هذا من جانب، ومن جانب آخر - وهو الجانب الأهم - آثاره الإيجابية على الاقتصاد الوطني ككل.وعلى الشركات العائلية الكبيرة ألا تكتفي باستخدام العمالة فقط، بل عليها أن تنشئ مراكز تدريبية داخل شركاتها لتدريب العمالة المتوافرة لديها، فضلاً عن فتح أبواب التدريب – بالتعاون مع الجامعات، والكليات التقنية، والمدارس الفنية - لطلاب الجامعات، كلٌّ في تخصصه.
وهذا الواجب الوطني من قِبَل الشركات العائلية ليس من سبيل فرض الكفاية، وإنما من سبيل فرض العين، حيث تنتشل بهذا الدور كثيرا من الشباب من دمار البطالة، التي قد تتسبب في انحرافهم وعدم استفادة وطنهم منهم، فهم القوة الحقيقية للوطن، وليس من المنطقي أن تسخَّر هذه القوة لدماره، بدلاً من تسخيرها لحمايته ورفاهيته، ومن ثمَّ دمار الشركات العائلية، لأن الكل في مركب واحد! ويجدر بنا في هذا المقام أن ننوه بوجود عدد قليل من الشركات العائلية لمست بحسِّها الوطني حقيقة ما ذكرناه آنفاً، وتعمل جاهدةً في تدريب الشباب وتأهيلهم، وإعدادهم لتحمل أعباء العمل، سواء بالاستفادة منهم في شركاتها، أو الاستفادة منهم في شركات أخرى، فالمهم هو استفادة الشباب أنفسهم، ومن ثمَّ استفادة وطنهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي