نمرض نفسيا ونحن لا نعلم؟ (2 من 3)

إن المرض النفسي لا يقل خطورة عن المرض البدني بل هو في كثير من الأحيان أشد خطورة من المرض البدني, لأن المريض النفسي يعيش حياة منشطرة ومنقسمة, فهو يحاول من جهة أن يعيش حياة طبيعية في الخارج ولكنه وهو يتعثر بنفسه المريضة يعيش حالة من البؤس في الداخل, فهو لا يقوى أن يعيش الحياة الطبيعية وما تستلزمه من ممارسات وسلوكيات تتناغم مع الحياة بشكل صحيح وربما هو يؤمن بها وبصحتها, وهذا ما يزيد معاناته وآلامه. وإذا كان الأطباء يخافون جدا من الأمراض البدنية المتخفية التي لا تكشف عن نفسها من خلال أعراض يحس بها المريض وقد يكون لها الفضل في تنبيه المريض عن مرضه ودفعه إلى المسارعة في طلب العلاج لنفسه, فإن أكثر الأمراض النفسية التي نصاب بها هي من هذا النوع, وهي من الأمراض المتخفية, فهي إما أمراض لا تكشف عن نفسها كليا وليس لها أعراض واضحة ولكنها أمراض تكبر وتزداد وطأتها على النفس وقد تصل إلى درجة من التورم والاحتقان لتنفجر بصاحبها, إما في صورة اكتئاب شديد يدخل حياة الإنسان في جحيم, وإما جنون وإما انتحار وإما ارتكاب جريمة في حق الآخرين, وإما تكون أمراضا نفسية لها أعراضها الظاهرة ولكن عدم معرفتنا وفهمنا لها على أنها هي فعلا أعراض لأمراض تعانيها نفس ذلك الإنسان يجعلنا نفسر مثل هذه الأعراض على أنها تمثل خللا ما في الجانب الأخلاقي من شخصية ذلك الإنسان وبذلك يبقى المرض ينهش في نفس ذلك الإنسان فتزداد حياته بؤسا وشقاء, ونستمر نحن في خطاباتنا ووعظنا له بالتخلي عن مثل هذا الخلق السيئ.
فتفهمنا وتثقيف أنفسنا بالمفهوم الصحيح للمرض النفسي سيجعلنا ننظر لكثير من أمورنا ومشكلاتنا الاجتماعية على غير ما كنا نراها في السابق, وحتى مسألة التقدم والتطور والنهوض الحضاري الذي طالما اتهمنا بأننا مجتمعات لا نملك من المقومات الثقافية للنهوض بأنفسنا هي مسائل لم تتم مناقشتها في ضوء ما لحق بدواخل أنفسنا نحن العرب من أمراض عبر حقب زمنية طويلة من الظلم والاستبداد والتهميش والزج في صراعات ونزاعات تافهة. فكيف يراد للإنسان أن ينهض ونفسه قد أقعدها المرض؟ وهل باستطاعة مجتمع أن يسابق غيره من المجتمعات وهو يتوجع من مشكلات اجتماعية لا يعرف الطريق لحلها لأنه لا يدري أن هذه المشكلات الاجتماعية هي في حقيقتها مشكلات اجتماعية بجذور نفسية, وما دامت حلولنا لا تصل في معالجاتها إلى الجذور ستبقى مجتمعاتنا مريضة بمرض نفوسنا.
وإذا أردنا لهذا الحديث والكتابة في هذا الموضوع ألا يخرج عن إطاره التثقيفي فإننا نجد أنفسنا ملزمين بالتطرق للعوامل الأكثر التصاقا وارتباطا بالمرض النفسي, وذكر هذه العوامل لا يعني حصرها ولا تعميمها لأن النفس أعقد من أن تستوعبها مجموعة عوامل محددة ولكن ما دامت عندنا قناعة مؤكدة بأن النفس تمرض فلا بد إذا أن نجتهد في معرفة بعض تلك العوامل التي تؤدي بالنفس إلى المرض, ومن هذه العوامل ما يمكن ذكرها باختصار في النقاط التالية:
1 - العقد النفسية: كثير من الأمراض النفسية التي ربما يصاب بها الإنسان هي نتيجة لوجود عقد تشكلت في نفس الإنسان نتيجة لحاجات غير مشبعة في حياته, فكثير من عقدنا النفسية التي تشوه كثيرا من سلوكياتنا كانت في الأصل حاجات حميدة تحولت بسبب عدم إشباعها إلى أورام نفسية خبيثة فالإنسان المتسلط والقاسي على الآخرين والذي قد لا تكتشف قساوته إلا زوجته بعد الزواج أو يكتشفه من يعملون تحت إدارته بعد تنصيبه مديرا عليهم قد يكون إنسانا يشعر بالحقارة, وهو مريض نفسيا ومرضه النفسي نتيجة لوجود عقدة نفسية تشعره بعدم احترام وتقدير الآخرين له, وهذا الشعور بعدم الاحترام هو الذي يدفعه إلى الانتقام لحقارته من خلال التسلط والقسوة, فالتأكيد على قيم الاحترام والتقدير في تربية الإنسان, خصوصا في مراحل الطفولة هو من أجل إشباع هذه الحاجة لأن عدم إشباعها يحولها إلى عقدة نفسية تجعل من الإنسان مريضا. وأيضا من لا يمتلئ خزانه الداخلي بالشعور بالثقة به فإن هذا النقص يجعل من ذلك الإنسان شكاكا ومترددا وغير قادر على اتخاذ القرارات بنفسه.
2 - فقدان الشعور بالأمان: لعل أكثر ما يمهد للإصابة بالأمراض النفسية هو الشعور بالخوف وعدم الإحساس بالأمان, فالخوف يسهل للأوهام أن تستبيح النفس, والخوف يجعل الإنسان فريسة لغيره, والخوف يعطل ما عند الإنسان من قوة داخلية لمواجهة الحياة, وبالتالي لا ينتظر من الإنسان الخائف في داخله إلا الانكفاء والاضطراب والعجز في التواصل مع الآخرين. الطفل الذي يتعرض للعنف الجسدي والمعنوي في أسرته أو في مدرسته لا تكفي فقط حمايته وتخليصه من هذا العنف بل علينا أن نعيد له الشعور بالأمان في داخل نفسه, وإن لم ننجز ذلك فإن هذا الطفل سيكبر وهو معوق نفسيا, والإعاقة النفسية هي ربما أكبر من الإعاقة البدنية في التأثير سلبا في حياة الإنسان.
3 - ضعف اللياقة النفسية: المعلوم أن لياقة الإنسان البدنية لها دور في تحصين الإنسان في وجه الأمراض الجسدية وأن لها الفضل في تقوية الإنسان وبالأخص عضلاته لدفع أو حمل أثقال لا يقوى الإنسان الضعيف على القيام بها. وهكذا الحال بالنسبة للنفس, فاللياقة النفسية تحمي النفس من الوقوع بسهولة في المرض النفسي, فالنفس التي دربها صاحبها على التفاؤل والبحث عن الأمور الإيجابية وعدم الاستغراق في السلبيات هي نفس من الصعب أن تصاب بالاكتئاب والانطواء, وهي نفس تجعل صاحبها أكثر انفتاحا وسلاما في التعامل مع الآخرين. النفس كما هو البدن في حاجة إلى تمارين ورياضات نفسية لتدخل لعبة الحياة وهي في كامل لياقتها وإلا ستكون الحياة مشقة وتعبا وأمراضا نفسية.
4 - الاهتمام بالعقل الظاهر على حساب العقل الباطن: نعتقد, وهذا خطأ, أننا نعيش ونمارس الحياة بكل تفاصيلها وفق توجيهات الشعور وما يمليه علينا العقل الظاهر, وهذا الاعتقاد جعلنا نولي كل اهتمامنا لرعاية وتربية عقل الإنسان, فتصورنا بأن الحياة لا تستقيم إلا بعقلنة الإنسان, والعقلنة هي حشو عقل الإنسان بالأدلة والبراهين التي تكشف له الصحيح من الخطأ, والحق من الباطل, والفضيلة من الرذيلة, والاستقامة من الانحراف, والطهارة من النجاسة. ولكن عالم الشعور وسلطان العقل ليس هو من يسير كامل حياة الإنسان, فهناك عالم اللاشعور والعقل الباطن حيث هناك تتولد القناعات وتتزاحم الرغبات وتتدافع الشهوات وتصنع ويعاد تصنيع الدوافع النفسية, وهذا العالم هو من له السيطرة الحقيقية على حياة الإنسان. فالاهتمام بالعقل الظاهر ونسيان العقل الباطن أنتج لنا شخصيات تود القيام بأشياء ولكن تفعل غيرها, فترك العقل الباطن من غير اهتمام ولا تربية ولا رعاية ولا دراية بحاجاته وأسراره هو من أكثر العوامل الممهدة للإصابة بالأمراض النفسية.
المرض عموما حالة طارئة على النفس كما هو المرض البدني, وكلما استطاع الإنسان أن يتتبع العوامل المؤدية لهذه الأمراض فستكون له القدرة على مواجهتها والتمكن من معالجتها, أما إذا بقينا مشغولين عن أنفسنا ولا نريد الاعتراف بما قد يصيبها من أمراض فستكون حلولنا لمشكلاتنا على الدوام ناقصة ومعالجاتنا فاشلة. وللحديث تتمة .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي