النقد والعدل
ولا نزال نبحث في أصول النقد..وبعد أن تطرقنا في المرة السابقة لشرط مهم وهو العلم بالمجال الذي يخوضه الناقد، ننتقل إلى شرط آخر لا يقل أهمية.. وقد يفيدنا - قبلا - أن نتذكر أن كل حديثنا هذا هو في إطار الإقرار بوجود غاية حميدة من النقد، بالإضافة إلى الاهتمام بتهذيب الوسائل بغرض الوصول إلى تلك الغاية.
ومن منطلق هذا الإقرار والحرص، يصبح الشرط الثاني ضرورة: الإنصاف أو ما يسمى أيضا بالموضوعية. فما هو هذا الإنصاف؟ وكيف نصل إليه؟
فأما السؤال الأول فقد تسهُل إجابته إذا ما عكسنا الموقف، فقلنا: كيف أشعر أن فلانا أنصفني؟ وغالبا ما سيكون الجواب: إن وَجّه لي نقدا واقعيا يوضِّح ما لي وما عليّ، يكون أنصفني.. أي لا يعطيني أكثر من حقي ولا يبخسني شيئا أو يتجنّى علي..هذه سهلة، ولكن السؤال الأهم والأصعب هو الثاني: كيف نصل إلى الإنصاف؟
لماذا هو أصعب؟من المضحك أن من قد يسأل هذا السؤال أو بمعنى آخر (الذي يظن أن الإنصاف سهل)، لم يعتقد ذلك لو لم تَقِل لديه (غالبا) صفة مهمة، وغياب هذه الصفة نفسها (أو ضعفها) هو ما يجعل الإنصاف صعبا، أو فلنقل أنه من جهاد النفس الواجب علينا: وهذه الصفة هي الصدق مع النفس.. أي مواجهتها الصريحة بعيدا عن محاولة التبرير والتجميل والتحايل. فما علاقة الصدق مع النفس بالنقد والإنصاف؟
لننظر أولا إلى ما يتطلبه الإنصاف في النقد قبل إجابة هذا السؤال:
? -لا يمكن أن نتخيل إنصافا دون القدرة والرغبة في رؤية المميزات إضافة إلى العيوب.. فالاقتصار على أحدهما دون الآخر يثمر نظرة غير متوازنة وغير مطابقة للواقع.
?- ومن البداهة أيضا أن الدافع الذاتي من وراء النقد له أثر بالغ في أسلوب النقد أولا، ثم على مدى إنصافه في أغلب الأحيان.. فلا يُتَخَيَّل أن من دافعه التحقير أو البغض أو الموقف الشخصي - مثلا - سيكون قادرا على إيفاء النقطة الأولى (التوازن في تصور العيوب والمميزات). ولكن هل من السهل على الإنسان معرفة دوافعه الحقيقية في النقد أو غيره؟ألا يُخيَّل للإنسان كثيرا أنه يفعل الفعل مدفوعا بأسمى المحفزات والمشاعر ،في حين أن الحقيقة غير ذلك (لو صدق نفسه).. وما الرياء مثلا إلا من هذه العلّة البشرية.. إذن فتمييز الإنسان لدوافعه ونواياه ضروري لانعكاسه على السلوك.. ولا يسهُل هذا التمييز إلا بالصدق مع النفس، التي هي عرضة دائما للشوائب من أحكام مسبقة وهوى وانفعال عاطفي شديد إلخ، فاتهام النفس في هذا الجانب ليس من قبيل التثبيط أو جلد الذات بل من باب الغربلة والتمحيص ليكون ما يتفوه به الشخص (أو يكتبه) أقرب ما يمكن للعدل وبالتالي البناء والإصلاح.
?- وإن كان الناقد يريد لنقده فرصا عالية في التأثير فلا مفر له من أن يستند في نقده إلى معيار ومنهج يكون منطلقا للاتفاق والتفاهم مع المُنتَقَد، وإلا بات كل امرئٍ يصيح في وادٍ دون أي فرصة للتفاهم، وأصبحت القضية مسألة أمزجة متقلبة بلا ضابط.. ولا يخرج هذا عن ضرورة الصدق مع النفس، فيسألها: هل هذا الرأي له ما يبرره من منهج ومنطق أم أنه نابع من هوى أو انفعال، وليس أصعب من هذا السؤال.. ولا أهم..
فيبدو إذن أنه لا انفكاك عن الصدق مع النفس إن أردنا إنصافا في النقد، وربما قلنا إن هذا الصدق ما هو إلا نقدٌ للنفس ومحاسبة لها قبل تَعَدِّي ذلك إلى الغير.. وكلا، لم تنته أصول النقد بعد، وها هو سؤال الذي يقودنا للأصل التالي: هل العلم والإنصاف يكفيان؟