هل فعلا أننا قد نمرض نفسيا ونحن لا نعلم؟! (1 من 3)
هناك اعتقاد خاطئ عند كثير منا بأننا محصنون من المرض النفسي, وهذا الاعتقاد مرده سوء فهمنا لما يعنيه المرض النفسي, فالمرض النفسي عندنا صورة من صور الجنون, وبالتالي فآخر شيء يخطر على بالنا هو الإقرار بالمرض النفسي لأنه إقرار بالجنون, ومن منا يريد أن يقر على نفسه بالجنون؟! أولا يجب أن نعرف أن النفس تمرض كما يمرض البدن, وأن أمراض النفس كما هي أمراض البدن, منها أمراض طارئة تحل بالإنسان وسرعان ما يشفى منها, ومنها أمراض مزمنة على الإنسان أن يعرف كيف يتعايش معها ويخفف من آثارها ووطأتها على حياته, وهناك أمراض خطيرة قد تقعد بالإنسان وتحدث له إعاقات نفسية تجعله عاجزا عن القيام بسلوكيات وممارسات الإنسان العادي والسوي, وعندها يتطلب الأمر رعاية خاصة تبقيه بعيدا عن المجتمع لفترة زمنية معينة, وهناك من الأمراض النفسية ما هو معد مما يحتم على المحيطين بهذا المريض الحرص على وقاية أنفسهم من التأثر والإصابة بهذا المرض, وهناك أمراض نفسية تتحول إلى أمراض وبائية يصاب بها المجتمع وتتحول إلى مرض نفسي اجتماعي, وفي هذه الحالة يختلف العلاج عن علاج الفرد المصاب بالمرض النفسي.
أول حقيقة يجب أن نقر بها ونستوعبها بشكل صحيح هي أن النفس تمرض كما يمرض البدن وأن مرض النفس كما هو مرض البدن في حاجة إلى علاج وأدوية وإن اختلفت طبيعة هذه الأدوية, كما أن الأمراض البدنية يمكن الوقاية منها وعدم الوقوع فيها فكذلك تلعب الوقاية دورا كبيرا في عدم إصابة النفس بالمرض النفسي أو على الأقل تخفيف وطأته في حالة الإصابة, فكما للبدن مناعة تختلف من شخص إلى آخر كذلك للنفس مناعة تختلف من شخص إلى آخر, وأخطر ما على الإنسان هو أن ينهار جهازه المناعي فتنهش بدنه الميكروبات والفيروسات التي تحيط بنا, والنتيجة نفسها يتعرض لها الإنسان الذي تنهار مناعته النفسية فيقع فريسة للأوهام والوساوس لينتهي به الأمر إلى تعطل قواه العقلية فيصبح مجنونا يمارس حياته وفقما يعيشه من اضطرابات وأوهام غير موجودة في الواقع.
والبدن قد يتعرض للرضوض والكسور والصدمات وعلى أثر ذلك قد يعرج الإنسان بفعل كسر في قدمه أو قد يتورم جزء من بدنه أو قد يفقد توازنه من شدة الألم ويتصرف كالمجنون ولا نلومه على ذلك لأن بعض الألم إذا اشتد تختل بسببه موازين الإنسان, وكذلك الإنسان نفسيا قد تكون نفسه عرجاء بفعل صدمة أو كسر فيها, ولأننا لا نعرف عن المرض النفسي فإننا ربما نوبخه ونستنكر عليه هذا السلوك الأعوج أو الأعرج وقد نزداد عليه قسوة ونتهمه بأن له ذات منحرفة, وربما يبقى هذا الكسر من دون علاج ويتحول الكسر إلى إعاقة دائمة وكان بإمكاننا تجبيره لتعود النفس إلى مشيتها الطبيعية. والحقيقة الثانية أن الأمراض النفسية كما هي الأمراض البدنية في غالبيتها قابلة للعلاج إذا التفتنا إليها وبادرنا إلى الاهتمام بها ومعالجتها, وبعض هذه الأمراض النفسية البسيطة, كما هي أمراض البدن البسيطة, ربما تتحول إلى أمراض صعبة إذا أهمل علاجها ولم نبادر إلى مداواتها.
أما الحقيقة الثالثة فهي الوقاية, فنحن نسمع كثيرا من الأطباء والمختصين في الشؤون الصحية عن أهمية وقاية أبداننا من الأمراض, فالوقاية تبدأ بالاهتمام بأبداننا, وكيف أن الرياضة والتغذية المتوازنة والنظافة تعزز مناعتنا في وجه الأمراض, والأمر نفسه ينطبق على نفس الإنسان, فالاهتمام بالرياضات النفسية وتغذية النفس بالنظرة الإيجابية والقناعات المتفائلة المتفاعلة مع الحياة والاهتمام بنظافة النفس وغسلها مما قد يلحق بها من غبار وأوساخ يجعلها نفسا قوية قادرة على أن تصد ما يهب عليها من وساس وأوهام تعكر شعورها بالأمان أو تهز ثقتها بقدرتها على مواجهة المشكلات والصعاب أو تثير عندها الخوف والشعور بعدم الاطمئنان.
أما الحقيقة الرابعة فهي أن البدن والنفس يتأثران ببعض, فقد يبدأ المرض في بدن الإنسان وينتقل هذا المرض تدريجيا إلى نفس الإنسان وقد يكون الأمر على العكس, حيث إن البداية قد تكون مرضا في النفس ويلحقها البدن. ويسمي الأطباء هذه الأمراض بالأمراض الجسمية النفسية. وما أكثر الأمراض النفسية التي يعتل البدن أيضا بسببها, فالشعور بالخوف والحزن والكآبة توحي للإنسان بأنه ضعيف أو مصاب بمرض لا يعرف عنه وعندها يتداعى الجسد لهذه الوساوس والأوهام فتضعف مناعته وعندها تتاح الفرصة لما يحيط بنا من ميكروبات وفيروسات أن تفعل فعلها في أبداننا. والإنسان يمرض في بدنه ولكن نفسه أضعف من أن تتحمل هذا المرض والوهن في البدن, فنفسه هي قابلة وعندها من الاستعداد نتيجة لضعفها أن تتأثر بسرعة بما أصاب البدن من مرض, وبالتالي لا تعين الإنسان على تحمل مرضه الجسدي فتمرض هي وتزيد المرض البدني سوءا. بل إن النفس الضعيفة والخائفة قد توهم الجسد بأنه مريض فعلا, وهو ليس بمريض, وبإمكانها حتى أن تشعره بسخونة في جسده, وحرارته في مستوياته الطبيعية, وقد تشعره بالصداع الشديد أو الألم الذي لا يطاق وهو في الحقيقة غير موجود, ولا يعني عدم وجود هذا الألم أو الصداع أو السخونة بأن هذا الإنسان المريض يدعي كذبا بها لأن الشعور بهذه الأعراض هو فعلا موجود ولكنه ليس صداعا في رأس الإنسان وإنما صداع نفسي وألم نفسي وحرارة نفسية, وقوة هذا الصداع والألم والحرارة النفسية قد تنتقل فعلا للبدن ولكن تبقى معالجتها في النفس وليس في البدن.
أما الحقيقة الخامسة فهي أن الإنسان كوجود ووظائف وكسلوك يتأثر بالمرض البدني والنفسي, ولكن بالمرض البدني يتأثر أكثر جسد الإنسان وما يحويه من وظائف حيوية وهذه يتلمسها الإنسان بنفسه فيسرع إلى الطبيب لمعالجة مرضه والتخفيف من معاناته, ولكن المصيبة مع المرض النفسي أن أكثر ما يتأثر به هو سلوك الإنسان مع نفسه ومع غيره وما يحيط به في الحياة. الطفل الذي يتعرض للعنف الجسدي والمعنوي في أسرته قد تتصدع نفسه وينعكس هذا التصدع على سلوكه, وقد يتحول هذا التصدع إلى رغبة في الانتقام تتراكم في داخل نفسه, وفي حالة عدم معالجة هذه الأورام والاحتقانات النفسية في وقتها فإنها قد تنفجر في صورة سلوك عنيف وقاس ولا إنساني في أي فرصة يكون فيها هذا الإنسان في موقع التحكم في غيره. وعندما تهان المرأة أو تعامل بدونية في أسرتها تتولد عندها أيضا تشوهات نفسية قد تجعلها غير قادرة على التحكم بانفعالاتها وسلوكياتها وتكون هي أول ضحية لنفسها وتكون أسرتها وأطفالها في قائمة الضحايا. أما الحقيقة السادسة فهي أنه ليس كل انحراف سلوكي انحراف أخلاقي, ولا يعني السلوك المشوه أنه بالضرورة يعبر عن نفس خبيثة ونوايا شريرة وعندها تجدنا نقاطعه ونلقي عليه المحاضرات الأخلاقية ونتوعده بالنار والعذاب الشديد في الآخرة فنزيد مرضه مرضا وألمه ألما, فلا هو يستطيع أن يداوي مرضه وحده ولا نحن نرحمه ونساعده على مرضه بل يجدنا ونحن نهاجمه ولا نساعده. فكثير وكثير من المشكلات الاجتماعية أسبابها أمراض نفسية وستبقى هذه المشكلات بل ستزداد ما دمنا نريد معالجتها بالوعظ والخطب والمحاضرات الأخلاقية فقط وننسى أنها أمراض تعانيها النفس ولابد من معالجتها في مكانها, فقد نظن أن هذا المريض النفسي الذي تنهمر دموعه وهو يسمع لمن يعظه أو يخطب عليه بالأخلاق بأنه قد تأثر بها وستصلح أخلاقه بعد ذلك ولكننا لا ندري ربما هذا البكاء هو توسل من المريض بأن نكف عن توبيخه واتهامه في أخلاقه وأن نتوجه بدل ذلك لمساعدته على معالجة ما تعانيه نفسه من أمراض وعقد نفسية... وللحديث تتمة.