مأزق «الحال»: «لا موجودة ولا معدومة»
يبدو أن علم الكلام لم يعرف مشكلة هزت كيانه كمشكلة «الأحوال». لقد اضطرب في شأنها المعتزلة والأشعرية معا أيما اضطراب، في وقت كان علم الكلام قد بلغ فيه أوج تطوره وقطع أشواطا بعيدة على طريق تنظير مسائله وتشييد صرح الرؤية البيانية «العالمة». لقد كانت مشكلة «الحال» في علم الكلام، إذن، من تلك المشكلات العويصة التي تتجسم فيها أزمات النمو في العلوم، والتي يتطلب تجاوزها إعادة النظر في الجهاز المفاهيمي الموظف في هذا العلم، بل إعادة تأسيس البناء كله. فهل وفق علم الكلام إلى تجاوز هذه المشكلة الخطيرة وطرَق آفاق جديدة؟
قبل الجواب عن هذا السؤال لا بد من التعرف عن قرب على جوهر المشكل المطروح.
كانت مشكلة «الصفات» من أهم المشكلات الأساسية في علم الكلام. فلقد عمد المتكلمون معتزلة وصفاتية (= كُلاّبية، أهل السنة) إلى إثبات الصفات للذات الإلهية باعتماد منهجهم المفضل: الاستدلال بالشاهد على الغائب، فقالوا مثلا: لما كان العلم هو «علة» كون الواحد منا عالما، ولما كان الله عالما، فلا بد أن يكون عالما بـ «علم»، أي لا بد أن يكون العلم صفة له. وهكذا قالوا في باقي الصفات التي تستحقها الذات الإلهية. تبقى بعد ذلك مسألة ما إذا كانت الصفات، مثل العلم والقدرة والإرادة إلخ، صفات زائدة على الذات كما يقول الصفاتية أم أنها عين الذات كما يقول المعتزلة، وهي مسألة لا تهمنا في موضوعنا كثيرا. ما يهمنا هنا هو تلك الأوصاف التي تعلل بتلك الصفات، مثل عالم، قادر، مريد إلخ، وهي التي أطلَق عليها اسم «الأحوال» شيخ المعتزلة في عصره أبو هاشم الجبائي (المتوفى سنة 321 هـ). ومع أن كثيرا من رجالات المعتزلة قد أنكروا القول بها فقد تبناها أقطاب من الأشاعرة، إما مع تردد كالباقلاني، وإما دون تردد كالجويني (يقال إنه عدل عن القول بها في آخر حياته).
يشرح الجويني (في كتابه : «الشامل») معنى «الحال» بصورة عامة فيقول : «مما يليق بالأحوال أنا إذا وصفنا شيئا بالوجود، ثم أثبتنا له بعد الوجود صفات نحو كون الجوهر متحيزا أو كون العرض علما أو جهلا أو إرادة أو قدرة، فهذه الصفات الزائدة على الوجود أحوال عند مثبتيها (=أي القائلين بالأحوال) وهي عند نفاتها (=منكري الأحوال) أنفس الذوات وأعيانها». وهكذا فالوصف «عالم» في قولنا «زيد عالم» هو حال لزيد عند القائلين بـ «الحال» وهو زيد نفسه عند المنكرين لها، ويضيف الجويني قائلا: «... والذي يضبط ذلك أن الأحوال عند مثبتيها تنقسم إلى ما يعلل وإلى ما لا يعلل. وأما ما يعلل فهو الأحوال الثابتة للذوات من المعاني القائمة بها» ( كـ»عالم»، «قادر» إلخ، فعِلَّة كون العالم «عالما» هو «العلم» وهكذا). أما لا يعلل فهو «كل وصف لا يرجع إلى نفي، ولا يتناقض العلم بوجود الموصوف مع الجهل به»، مثل قولنا «متحيز» فهو صفة نثبتها للجوهر، ولكن الجهل بها لا يمنعنا من العلم به. فنحن نتصور الجوهر دون أن نستحضر في أذهاننا كونه متحيزا أو غير متحيز.
وحسب عبد القاهر البغدادي (الأشعري) فإن الذي ألجأ أبا هاشم الجبائي إلى تسمية مثل هذه الأوصاف بـ «الأحوال» هو الإشكال الذي طرحه على المعتزلة خصومُهم من الصفاتية حينما سألوهم عما يفترق به الجاهل عن العالم قائلين : هل «العالم منا فارق (اختلف مع) الجاهل بما علمه، لنفسه أو لعلة؟» وبما أنه لا يمكن أن يكون قد فارقه واختلف عنه لنفسه، أي لذاته، لأنهما معا (العالم والجاهل) من جنس واحد (=كلاهما ذات إنسانية)، وبما أنه لا يمكن أن يكون قد فارقه «لا لنفسه ولا لعلة لأنه لا يكون حينئذ بمفارقته أولى من آخر سواه» فلا يبقى إلا أنه «إنما فارقه في كونه عالما، لمعنى ما». فما هو إذن هذا المعنى؟ أجاب أبو هاشم : «فارقه لحال كان عليها». ثم يضيف البغدادي قائلا: «فأثبت الحال في ثلاثة مواضع : أحدها الموصوف الذي يكون موصوفا لنفسه فاستحق ذلك الوصف لحال كان عليها، والثاني الموصوف بالشيء لمعنى صار مختصا بذلك المعنى لحال، والثالث ما يستحقه لا لنفسه ولا لمعنى فيختص بذلك الوصف دون غيره لحال».
ويقدم الشهرستاني ضابطا أدق وأوضح لمعنى الحال فيقول: «والضابط أن كل موجود، له خاصية يتميز بها عن غيره، فإنما يتميز بخاصية هي حال. وما تتماثل المتماثلات به وتختلف المختلفات فيه فهو حال». فالفحم والسبورة وهذا القلم الأسود أشياء متماثلة، وما تتماثل به هو «السوادية» فهي حال لها. وهي جميعا تختلف عن الثلج والطباشير واللبن التي هي أشياء متماثلة في حال لها هي «البياضية». وكذلك قولنا «عالم»، فهو وصف يتماثل به كل الأشخاص العلماء، فـ «العالمية»، إذن، حال لهم يتماثلون بها، كما يختلفون بها عن الجهال الذين تقوم بهم حال مناقضة هي «الجاهلية»... وهكذا.
إذا نظرنا إلى هذا الوصف المسمى «حالا» من داخل نظرية الجوهر الفرد فإن أول مشكلة ستصادفنا هي السؤال التالي : هل الأحوال جواهر أم أعراض؟ وهي ليست جواهر، فالجوهر قد يعلم بجوهريته ولا يعلم بكونه متحيزا أو ساكنا أو متحركا أو غير ذلك من الأوصاف التي هي أحوال له. والأحوال كما أنها ليست جواهر ليست أعراضا أيضا، لأن العرض يعلم بعرَضيته، أي بكونه عرضا، ولا يخطر بالبال كونه لونا أو حركة أو سكونا، ثم يعرف ذلك منه بعد ذلك. وبمعنى آخر فكما أننا نفهم معنى الجوهر دون أن يخطر ببالنا كونه متحيزا ونفهم معنى العرض دون أن يخطر ببالنا كونه لونا أو حركة إلخ… فإن كون الجوهر متحيزا وكون العرض سوادا صفات معقولة، أي تعقلها أذهاننا، ولكن دون أن تكون من ضمن الجواهر ولا من ضمن الأعراض. وبما أنه «ليس ثمة في الوجود إلا الجواهر والأعراض» فإن الإشكال الذي يطرح نفسه هو التالي: بما أن الأحوال ليست جواهر ولا أعراضا فيجب أن تكون غير موجودة، أي معدومة. ولكن كيف يمكن تصور ذلك وهي صفات معقولة نثبتها للذوات، وبها تتماثل هذه وتختلف؟ وإذن فلا بد من القول إنها موجودة غير معدومة، وبالتالي فهي: «لا موجودة ولا معدومة». وبذلك قال أبو هاشم الجبائي ومن تبعه في إثبات الأحوال من المعتزلة والأشاعرة.
فكيف الخروج من هذا المأزق ؟