فن إسعاد العميل الشاكي
تأمل معي عزيزي القارئ في هذه المواقف الواقعية التي حصلت لي شخصياً في بعضها والبعض الآخر منها حصل لبعض الزملاء:
1- فوجئ أحدهم بوجود مبالغ مالية باهظة في فاتورة هاتفه الثابت لخدمات لم يطلبها أو لم يستفد منها وهو لا يعلم عن إدخالها قط! فيشتكي ولا من مجيب. فما هو موقف هذا العميل من هذه الشركة بعد ذلك؟
2- يشتري شخص ما سيارة من إحدى وكالات السيارات ويجد فيها عيباً فنياً، فيذهب إليهم لإصلاحها، وإذا به يفاجأ بالمماطلة والتنصل عن حل تلك المشكلة! فيشتكي ولا من مجيب. فما هو موقفه من تلك الشركة بعد ذلك؟
3 - يتكبد أحد المسافرين كثير من التعب والتكاليف عند إرادته السفر هو وعائلته بإجازته السنوية، وإذا به يفاجأ ودون سابق إنذار بتأجيل الرحلة لساعات طويلة دون اهتمام من مسؤولي ذلك الناقل الجوي! فيشتكي ولا من مجيب. فما هو موقفه من تلك الشركة بعد ذلك؟
4 - يجتهد أحدهم في تطوير نفسه فكرياً وإداريا فيلتحق بدورة مكلفة جداً عليه، ويدفع من جيبه كثيراً من ماله ومال عياله.. ويفاجأ بأن الدورة ليست كما هي معلن عنها من حيث المادة والمحاضِر.. فيشتكي ولا من مجيب. فما موقفه من ذلك المركز؟
5- يشترك أحدهم في خدمات إحدى شركات التأمين الطبي ويدفع سنوياً عنه وعن أسرته ليستفد من جودة الخدمة الصحية - كما يُزعم -.. وإذ به يفاجأ بالقرارات والاستثناءات الكثيرة التي لم تلب توقعاته ولا حتى احتياجاته فيشتكي ولا من مجيب. فما هو موقفه من تلك الشركة؟
إن هذه الصور والأمثلة المتكررة هي جزء من المعاناة اليومية التي يرقبها المشاهد ويقع فيها كثير من المستفيدين من الخدمات والمنتجات.. والتي تثير العجب والاستغراب من تصرفات تلك المنشآت التي تمثل القطاع الخاص وترفع شعارات الجودة والاهتمام بالعملاء. بالطبع لا أقول أن الصور السابقة هي الصور الوحيدة لتلك المنظمات تجاه عملائها.. لكن كثرة وقوع تلك الأمثلة يجعل منها حقائق تستلزم الوقوف عندها، وهي المشكلة الأبرز التي تفشل كثير من المنشآت التعامل معها بطريقة سليمة، وهذا ما أود التركيز عليه في هذا المقال.
فمن هو يا ترى العميل (المستفيد)؟ وما الموقف المفترض لتلك المنظمات تجاه عملائها؟ وتجاه مشكلاتهم؟
لا شك عزيزي القارئ أن الاهتمام بالعميل (المستفيد) هو العنصر الرئيسي لإدارة الجودة الشاملة، فخدمة بلا تركيز على العميل ومتطلباته ورغباته، تعد خدمة تفتقر كلياً إلى الجودة. إن فلسفة عالم الاقتصاد اليوم ترفع راية "العميل دائماً على حق"، يعني أن رغبات العميل وتوجهاته يجب أن تسبق إرادة المنشأة، وأنه يجب ألا يتخذ قرار أو تبنى سياسة دون استكشاف رد فعل العميل ومدى رضاه، ولذا تهافتت المنشآت العالمية على هذا المفهوم وتطبيقه فعلياً، حتى أنك لتستغرب من بعض الممارسات التي قد يبالغ فيها، فهذه شركة زيروكس العريقة تقدم ضمان الرضا المطلق الذي يعطي العميل الحق في استرداد أمواله متى ما شعر بأن أداء المنتج الذي اشتراه لا يرقى إلى توقعاته، حتى ولو لم تكن هناك أي عيوب فيه، وأيضاً كشركة إيكيا، والتي تعلن عن سياستها في الإرجاع بأن للعميل الحق في إعادة المنتجات غير المستعملة في عبوتها خلال 30 يوماً.
وفي الحقيقة.. إن الاهتمام بالعميل وإعطاءه حقوقه يأتي من عدة منطلقات أهمها أن ذلك من شعائر ديننا الحنيف فقد قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود). وقال صلى الله عليه وسلم: "فاعط كل ذي حق حقه" وغيرها من الأدلة التي تدل بصورة أو بأخرى على ذلك. أيضاً أهمية كسب العميل تنطلق من كونه المبرر الوحيد لوجود المؤسسة وتحقيق الربح والنمو والاستقرار، خصوصاً في ظل شدة المنافسة وتكاثر المنافسين في زمن العولمة وذوبان الحدود. ولذلك تحرص المنظمات المتميزة على المحافظة على عملائها أكثر من حرصها على كسب عملاء جدد بالرغم من أهميته، فقد كشفت الدراسات البحثية عن أن جذب عملاء جدد يكلف المنظمات من المال والوقت والجهد خمسة أضعاف تكلفة المحافظة على العملاء الحاليين. وفي الناحية الأخرى فإن الفشل في تحقيق توقعات العميل يؤدي إلى فقدان الولاء وبالتالي تحولهم إلى المنافسين.
إن إسعاد العميل يكمن في تحقيق الجودة و التميز في تقديم الخدمات أو المنتجات عبر مراحل ثلاث من التعامل معه وهي ما قبل تقديم الخدمة أو المنتج، وأثناء تقديمها والاستفادة منها، وكذلك خدمات ما بعد البيع وتزويد العميل بتلك الخدمة. فالعملاء يحكمون على جودة الخدمة أو المنتج بالتأكد من المتطلبات الأساسية التي تحقق مستويات الرضا الدنيا لديهم، ثم ينتقل بعد ذلك للبحث عن مستويات أعلى من الأداء في الخدمة أو المنتج، وكلما ازدادت معدلات الأداء عن توقعات العملاء ازدادت تبعاً لها مستويات الرضا، حتى أن العميل يصل إلى درجة السرور المتناهي مما يشكل نوعاً من الولاء لديه وهو ما تتمناه كل منظمة.
وفي الوقت نفسه، نتفق جميعاً على أن أغلب العملاء لا يتقدمون بالشكوى عند عدم تحقيق الرغبات لعدة أسباب منها:
- عدم ثقة العميل بالمنظمة لإزالة أسباب الشكوى.
- أو لعدم معرفته بكيفية ذلك.
- وإما لإدراكه أن الشكوى قد لا تساوي ولا تبرر الوقت أو المجهود المبذول من ورائها.
- أو أن ذلك بسبب سهولة التحول إلى منافسين مع عقد العزم على عدم العودة، وهذا أخطرها على المنظمات.
- أو بسبب الرغبة في الانتقام أو برد فعل صامت على الأقل.
وللمعلومية، وعلى عكس ما قد تظنه بعض المنظمات، فإن العملاء المتذمرين هم في الحقيقة الأفضل بالنسبة لها لأنهم يعتبرون أحد المصادر المهمة للتعرف على نواحي القصور ومجالات التحسين الممكنة.
إن المنشأة التي تحترم نفسها وكيانها وتحرص على جودتها هي التي تستجمع كل طاقاتها وقواها عند حدوث خلل ما في المنتج أو الخدمة فضلاً عن الوقاية من حصوله! ولا شك أنه من المستحيل واقعاً - في رأيي - وصول نسبة جودة المنتج أو الخدمة إلى 100 في المائة، ومن ثم الوصول إلى مستوى مفهوم عالِم الجودة د.كروسبي مستوى العيوب الصفرية، إنما تسعى المنشآت الإنتاجية منها أو الخدمية إلى تقليل نسبة المعيب وتصحيح وتعويض المستفيد، ولذا فقد بادرت الشركات العالمية بتطبيق ما يسمى بمفهوم 6 سيجما (الحيود الستة)، والذي يسعى إلى تقليل نسبة المعيب إلى (3.4) منتج فقط معيب من مليون منتج! ولنتخيل معاً كفاءة وفعالية منشأة تحقق هذا الأداء.
فالمنظمات المتميزة لديها آلية واضحة في استقبال شكاوى العملاء والتعامل معهم باحترافية وإصلاح الخطأ في وقت قصير وتحويل غضب العميل وعدم رضاه إلى ولاء لها ولمنتجها أو خدمتها بالتعويض المباشر المادي والمعنوي، فليس العيب من وجود خطأ أو خلل بسيط إنما العيب هو الاستمرار في الخطأ وعدم الاكتراث به، ولذا تتبع هذه المنظمات بعض السياسات والإجراءات سواءَ كانت إجراءات وقائية قبل حدوث الخلل أو إجراءات تصحيحية حتى تدير شكاوى العملاء بفاعلية من خلال ما يلي:
أولاً: الإجراءات الوقائية
1- إنشاء أنظمة داخلية تتعلق بإجراءات التعامل مع شكاوى العملاء.
2- التحليل المستمر لشكاوى العملاء ومصادرها ومدى التقدم في المعالجة.
3- إجراء الدراسات المستمرة لرضا العملاء والأساليب المستخدمة في حل مشكلاتهم.
4- حث وتحفيز العملاء على سرعة الإبلاغ عما يعترضهم من مشكلات.
5- تدريب العاملين على فنون التواصل والإنصات لشكاوى العملاء والرد عليها.
6- توفير المزيد من الصلاحيات للعاملين في مجال التواصل مع العملاء وخصوصاً في عملية حل المشكلات.
ثانياً: الإجراءات التصحيحية (عند وصول الشكوى)
1. اتباع قواعد سلوكية عملية تخلق الثقة لدى العميل باهتمام المنشأة به:
- محاولة امتصاص غضب العميل وحسن الإنصات له.
- الاستجابة الفورية بشأن سرعة إنهاء المعاملة.
- الاعتذار عن حدوث المشكلة والتعبير عن الاهتمام بها.
- التركيز على ما يمكن عمله وعدم إلقاء اللوم على العميل.
- فهم المشكلة من منظور العميل وتجنب فهمها بصفة شخصية.
- الرد على الاستفسارات والأسئلة بكل تعاون وصبر.
2. متابعة شكاوى العميل للتأكد من اتخاذ الإجراءات بشأنها والتأكد من رضاه ولا بأس من توثيق ذلك.
3. الإسراع في تغيير المنتج أو الخدمة التي لم تحقق المطلوب ببديل أفضل يحقق رضا العميل.
4. منح العميل مميزات إضافية كتعويض بما لا يتوقعه تكفيراً عما بدر من المنظمة كعمل تخفيض بنسبة أكبر لخدمات أو منتجات أخرى أو إهداءه هدية تسعده وتزيل عنه الغضب..
5. مراجعة أسباب الشكوى وعلاجها والوعد بعدم تكرارها ومحاسبة المقصرين إن كانت بسبب الإهمال واللامبالاة.
ومن باب البشارة لتلك المنظمات التي حرصت فعلياً على إرضاء عملائها الغاضبين، فقد ذكرت إحدى الدراسات البحثية حقيقة علمية مهمة بأن العملاء الغاضبين من خدمات المنشأة سيعودون ويستمرون في التعامل معها بنسبة 75 في المائة حينما تجتهد المنظمة لحل مشكلاتهم. إضافة إلى أن العملاء الذين يحصلون على حلول لمشكلاتهم مع المنظمة يخبرون في المتوسط خمسة أشخاص عن معاملة المنظمة لهم.
وأخيراً.. إن ما سبق من إجراءات وتصرفات حكيمة من قبل المنظمة سيؤدي لا محالة إلى إسعاد العميل بعد شكواه، ورضاه بعد غضبه.. فهل نرى من منشآتنا الوطنية التسابق نحو ذلك؟ هذا ما نتمناه، خصوصاً أننا في زمن المنافسة الاقتصادية الشرسة. وهذا الأمر ليس بمستحيل ولكنه يحتاج إلى ثقافة مؤسسية تزرع مثل هذه المفاهيم المحورية، ومن أمثلة ذلك ما وقفت عليه بنفسي من أنموذج متميز تمثل في إحدى المنشآت الوطنية في مجال الشحن الداخلي، حيث إنها ترفع شعاراً رائعاً على الملابس الرسمية للشركة على صدور موظفيها: "العميل هو رئيسي" مؤكدة ذلك بجودة الخدمة.