الخلاف الأمريكي ـ الإسرائيلي حول المستوطنات والقانون الدولي

نشب خلاف بين إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما والحكومة الإسرائيلية برئاسة بنيامين نتنياهو حول استمرار إنشاء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل بالقوة الغاشمة منذ عام 1967.
الولايات المتحدة ترى أنه يجب أن تكف إسرائيل عن بناء المستوطنات، وإسرائيل ترفض ذلك، وقد تجلى هذا الخلاف على وجه الخصوص خلال المؤتمر الصحافي الذي عقد بتاريخ 18/6/2009 بين هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأمريكية ووزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان، حيث زعم الوزير الإسرائيلي أن إسرائيل أبرمت اتفاقات غير رسمية مع إدارة الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش، تسمح لها بالبناء في الحدود الحالية للمستوطنات القائمة، وأن إسرائيل مصممة على النمو الطبيعي للمستوطنات القائمة، وأن إسرائيل ترفض طلب الرئيس الأمريكي بشأن تجميد كامل للاستيطان بينما دعت الوزيرة الأمريكية إلى وقف الاستيطان وقالت إنه (لا مستوطنات ولا مواقع متقدمة ولا استثناءات مرتبطة بالنمو الطبيعي)، وأنه لا يوجد اتفاق رسمي أو خطي بين الولايات المتحدة وإسرائيل في عهد إدارة الرئيس السابق بوش يسمح لإسرائيل بالاستمرار في بناء المستوطنات، وأنه قد تم التحقق من ذلك في الأرشيف الرسمي للإدارة الأمريكية والأشخاص الذين يتحملون مسؤوليات.
وهنا لنا وقفة للتعليق فنقول ما يلي:
أولا: إن الولايات المتحدة الأمريكية طالبت إسرائيل بأن توقف توسيع المستوطنات القائمة وتمتنع عن إنشاء مستوطنات جديدة في الأراضي الفلسطينية ولكنها لم تطلب منها إزالة المستوطنات القائمة وتفكيكها رغم أنها غير شرعية طبقا لأحكام القانون الدولي العام.
ثانيا: وعلى الرغم مما تقدم فإن موقف إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما يعد خطوة في الاتجاه الصحيح نحو العودة إلى مواقف الحكومات الأمريكية المتعاقبة منذ حرب 1967 وحتى نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي عندما كانت تعارض الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة وتعتبرها غير مشروعة، وعائقا في طريق السلام، وظلت الولايات المتحدة متمسكة بهذا الموقف المبدئي حتى عام 1981 عندما أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان أن (المستوطنات غير ضرورية ولكنها ليست غير شرعية). وترتب على ذلك خروج السياسة الأمريكية تجاه المستوطنات الإسرائيلية عن إطار القانون الدولي، وتزايد استخدام الولايات المتحدة لحق النقض (الفيتو) أو الامتناع عن التصويت على عدد من مشاريع القرارات التي عرضت على مجلس الأمن الدولي بشأن المستوطنات الإسرائيلية. وبلغ انحراف الموقف الأمريكي عن القانون الدولي ذروته عندما صرح الرئيس ريجان في 24/5/1993 بأنه (لا يعتبر المستوطنات الإسرائيلية عقبة في وجه السلام). ثم تصريح المندوب الأمريكي في مجلس الأمن بتاريخ 2/8/1983 بأنه (ليس عمليا ولا مناسبا أن نقول بتفكيك المستوطنات القائمة، وأن مستقبل المستوطنات هي مسألة رئيسية في المفاوضات). أي أن الولايات المتحدة قد أضفت من تلقاء نفسها صفة (المشروعية) على المستوطنات الإسرائيلية القائمة، وترى أن مصيرها يجب أن يتقرر من خلال المفاوضات.
ثالثا: إن اختلاف وجهات النظر بين أمريكا وإسرائيل الذي ظهر خلال المؤتمر الصحافي المشترك للوزيرة الأمريكية هيلاري كلينتون والوزير الإسرائيلي ليبرمان، تمحور حول وجود أو عدم وجود اتفاقات سابقة بين الدولتين بشأن المستوطنات، وكأن الأرض الفلسطينية ليس لها صاحب، وكأن الطرف الأمريكي يملك الحق في أن يمنح أو لا يمنح هذه الأراضي، وكأن من حق إسرائيل أن تستولي كما تشاء ومتى تشاء على هذه الأراضي، وكأنه لا يوجد قانون دولي تحرم إحدى قواعده الآمرة الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة وتحرم إجراء أي تغيير في الأوضاع الإقليمية يتم عن طريق القوة والاحتلال.
لقد كان جديرا بالوزيرة الأمريكية (وهي محامية درست القانون الدولي) أن تستطرد بعد أن نفت وجود اتفاقات سابقة تسمح لإسرائيل بالاستمرار في بناء المستوطنات، وتقول إنه حتى لو وجدت مثل هذه الاتفاقات فإنها تعتبر باطلة ولا قيمة لها طبقا لقواعد القانون الدولي، وأن ما بني على باطل فهو باطل.
وأود الإشارة هنا إلى أن هيئة الأمم المتحدة أصدرت عديدا من القرارات تدين سياسة بناء المستوطنات الإسرائيلية والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية وتهويدها، نذكر منها ما يلي:
1- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 20/12/1972، الذي طالبت فيه إسرائيل بالكف عن عدد من الإجراءات والممارسات، منها (إنشاء مستوطنات إسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة ونقل بعض السكان المدنيين من إسرائيل إلى الأقاليم العربية المحتلة).
2- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 15/12/1972، الذي طلبت فيه الجمعية العامة من إسرائيل أن تكف عن ضم أي جزء من الأراضي العربية المحتلة وتأسيس مستوطنات في تلك الأراضي، ونقل أقسام من سكان أجانب إلى الأراضي المحتلة.
3- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 7/12/1973، الذي أعربت فيه الجمعية العامة عن القلق البالغ لخرق إسرائيل لأحكام اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 وجميع الإجراءات التي اتخذتها إسرائيل لتغيير معالم الأراضي المحتلة أو تركيبها السكاني واعتبرتها انتهاكا للقانون الدولي.
4- قرار الجمعية العامة بتاريخ 29/11/1974 الذي أعربت فيه الجمعية العامة عن أشد القلق من ضم إسرائيل لبعض أجزاء الأراضي المحتلة وإنشاء المستوطنات ونقل السكان إليها.
5- قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ 15/12/1975، والمكون من أربعة أقسام، وقد دانت في القسم الأول جميع الإجراءات التي تمارسها إسرائيل في الأراضي المحتلة، واصفة تلك الممارسات بأنها تشكل انتهاكات خطيرة لميثاق الأمم المتحدة وعائقا أمام إقرار سلام دائم وعادل في المنطقة، مؤكدة أن هذه الإجراءات تعتبر لاغية وباطلة، وليس لها أساس من الشرعية.
6- قرار الجمعية العامة الصادر في 28/10/1977، الذي أكد في البند الأول منه على أن جميع التدابير والإجراءات التي اتخذتها إسرائيل في الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 لا صحة لها قانونا، وتعد عرقلة خطيرة للمساعي المبذولة للتوصل إلى سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، كما تأسف الجمعية العامة بشدة لاستمرار إسرائيل في تنفيذ هذه التدابير وخاصة إقامة المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة.
7- ثم أكدت الجمعية العامة في قرارات عديدة لاحقة إدانتها سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة، بل ذهبت في بعض قراراتها الصادرة خلال عقد الثمانينيات من القرن الماضي إلى حد اعتبار الممارسات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة أنها تشكل جرائم حرب وإهانة للإنسانية، ومن ذلك قرارها الصادر سنة 1983 الذي أكد أن الاحتلال الإسرائيلي يشكل في حد ذاته انتهاكا جسيما لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، ودان استمرار إسرائيل وتماديها في انتهاك اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وأن ما ارتكبته إسرائيل من حالات خرق خطيرة لأحكام تلك الاتفاقية يعد جرائم حرب وإهانة للإنسانية، ثم دان القرار المذكور بقوة السياسات والممارسات الإسرائيلية، وخاصة ضم أجزاء من الأراضي المحتلة، بما في ذلك القدس وإقامة مستوطنات إسرائيلية جديدة وتوسيع المستوطنات القائمة في الأراضي العربية الخاصة والعامة، ونقل سكان أجانب إليها، ثم أتبعت الجمعية العامة القرار السابق بقرارات أخرى تؤكد ما ورد فيه، وتدين السياسة الاستيطانية الإسرائيلية ومنها القرار رقم 40/165 لسنة 1985، والقرار رقم 41/163 لسنة 1986، والقرار رقم 42/160 لسنة 1987، وغيرها من القرارات.
واهتم أيضا مجلس الأمن الدولي بمسألة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي العربية المحتلة وأصدر بشأنها عددا من البيانات والقرارات، منها:
1- البيان الصادر في تشرين الثاني (نوفمبر) سنة 1976 بموافقة جميع أعضاء المجلس، والذي يؤكد فيه عدم جواز تغيير المعالم السكانية والدينية والثقافية للأراضي المحتلة، معتبرا المستوطنات الإسرائيلية غير قانونية وعقبة في طريق السلام.
2- وفي قراره رقم 446 الصادر في 22/3/1979 دان مجلس الأمن سياسة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي المحتلة طالبا من إسرائيل التقيد باتفاقية جنيف الرابعة، وخاصة عدم نقل سكانها المدنيين إلى الأراضي المحتلة، كما وافق المجلس في ذلك القرار على إنشاء لجنة تتكون من ثلاثة من أعضاء مجلس الأمن على أن تقدم تقريرها له بحلول الأول من تموز (يوليو) 1979، وذلك من أجل دراسة الحالة المتعلقة بالمستوطنات في الأراضي المحتلة منذ عام 1967، بما في ذلك القدس، غير أن إسرائيل رفضت التعاون مع هذه اللجنة أو استقبالها، ما دفع مجلس الأمن إلى شجب ذلك في قراره رقم 452 وتاريخ 20/7/1979، وهو القرار نفسه الذي وافق فيه على تقرير اللجنة المذكورة.
ويرى جمهور فقهاء القانون الدولي أن استمرار إسرائيل في تنفيذ سياستها الاستيطانية في الأراضي المحتلة يمثل خروجا على تلك القرارات، ويبرز بجلاء مدى تحدي إسرائيل لقرارات الأمم المتحدة، وهي قرارات لها قوة قانونية ملزمة خاصة وأنها تنطوي على ترديد وإثبات لأحكام ومبادئ القانون الدولي العام المعاصر.
وقبل الختام أود الإشارة إلى أن صحيفة ''ذي إندبندنت'' البريطانية كشفت في سنة 2007 عن وثيقة (سرية للغاية) حصلت عليها من الأرشيف الرسمي لإسرائيل تتضمن نصيحة قانونية رسمية صدرت بعد حرب حزيران (يونيو) 1967 تحذر الحكومة الإسرائيلية، التي كان يرأسها آنذاك ليفي أشكول، من أن بناء مستوطنات على الأراضي الفلسطينية المحتلة يعتبر عملا غير مشروع وفقا للقانون الدولي. وتفيد هذه الوثيقة بأن مسؤولا قانونيا رفيع المستوى في وزارة الخارجية الإسرائيلية آنذاك، هو ثيودور ميرون، قد حذر من أن بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية أو في هضبة الجولان السورية سيكون عملا غير مشروع. ونشرت الصحيفة البريطانية هذه الوثيقة لتتزامن مع ذكرى مرور 40 عاما على حرب حزيران (يونيو) 1967.
وأجرت الصحيفة حديثا خاصا مع ميرون، الذي وصفته بأنه من أبرز الحقوقيين، أكد فيه أنه كان محقا في توجيه هذه المشورة القانونية آنذاك، وأنها لا تزال صائبة حتى اليوم، وتوضح الصحيفة أن الوثيقة توجه ضربة قاصمة إلى الادعاء الإسرائيلي بأن هذه المستوطنات لا تشكل انتهاكا للقانون الدولي.
وقد عمل القاضي ميرون رئيسا للمحكمة الجنائية الدولية ليوغسلافيا السابقة في لاهاي، وهو يقول للصحيفة إنه بعد انقضاء 40 عاما على نمو المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية صارت المستوطنات إحدى المشكلات الرئيسة التي ينبغي التوصل إلى حل لها في أي تسوية سلمية مقبلة، ويؤكد أنه إذا ما طلب منه تقديم نصيحته اليوم من جديد، فإنها ستكون مماثلة لمشورته التي قدمها قبل 40 عاما. ويقول القاضي ميرون إن وزير الخارجية الإسرائيلي خلال حرب 1967 أبا إيبان كان (متعاطفا) مع وجهات نظره بأن المستوطنات المدنية ستتعارض على نحو مباشر مع مواثيق جنيف ولاهاي التي تحكم تصرفات الدول المستعمرة.
وأضافت الصحيفة أنه رغم هذه النصيحة القانونية التي تلقاها رئيس الوزراء ليفي أشكول، والتي لم تذع في ذلك الوقت، إلا أن مجلس الوزراء الإسرائيلي وافق بشكل مستمر على بناء المستوطنات التي يبلغ عدد المستوطنين فيها اليوم (أي قبل سنتين) في الضفة الغربية نحو 240 ألفا. ويقول القاضي ميرون إن من الواضح بالنسبة إليه اليوم أن (وتيرة بناء المستوطنات المتسرعة جعلت التوصل إلى تحقيق سلام أمرا أكثر صعوبة).
وهكذا يتضح مما تقدم أن المسؤولين الإسرائيليين كانوا يعلمون منذ وقت مبكر أن إقامة المستوطنات في الأراضي العربية المحتلة يعد انتهاكا صريحا لأحكام القانون الدولي العام.
وفي الختام أقول إن الولايات المتحدة الأمريكية التي ساعدت إسرائيل، ولا تزال تساعدها عسكريا، واقتصاديا، وسياسيا، على نحو مكنها من احتلال الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية الأخرى واستمرار هذا الاحتلال، مسؤولة مسؤولية قانونية وأخلاقية عن إنهاء هذا الاحتلال العسكري الاستيطاني البغيض وتمكين الشعب الفلسطيني من إقامة دولته المستقلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي