...وماذا عما يسمى الهيئات الشرعية؟

العظماء والمفكرون هم الذين ينظرون إلى أصول الأشياء وحقائقها وأما خواص الناس فعادة ما يتجادلون ويتناظرون حول الحوادث الناتجة عن حدوث الأشياء, وأما البسطاء وهم الغالبية الساحقة فيُسلمون عقولهم للخواص فيخوضون عنهم حروبهم في نزاعهم على النفوذ بالنيابة.
فمثلهم في ذلك كمثل سرب كان على ماء وأمن فدوى صوت عظيم ففزعت منهم فئة فلحق بها جل السرب فقادوهم إلى الجوع والخوف والمهلكة بينما ثبتت قلة من السرب مكانها تنعم بخيراته لإدراكها أن أصل الصوت هو رعدٌ قد دوى مجلجلا.
ومن هذا قول النبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين", فالدين ليس هامشا في حياة المسلمين بل إنه قيود وتضحيات وصبر على مكاره قد حُفت الجنان بها. والدين هو سر استخلاف الإنسان في الأرض، "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". لذا فمن حكمة الله وعدله أن جعل الدين بسيطا يسيرا يسهل فهمه لمن أراد أن يفهمه، وشاهده "ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر" و قول الرسول عليه السلام " نحن أمة أمية" فلا تعقيد ولا سفسطة.
 فالدين دين الفطرة، والعقل الصحيح هو الذي يدل على الفطرة التي تميز الإنسان وتُكلفه والمنطق هو ميزان العقل. والغرب لم يتخل أبدا عن الدين جملة وتفصيلا بل تخلى عن جانب التعبد في الدين لأنه قيد على شهواتهم الحيوانية، ولكنهم في واقع الأمر قد التزموا بالدين من غير قصد التعبد في كثير من جوانب المعاملات. فهم وإن كانوا قد نفضوا عنهم أحبارهم ورهبانهم فما ذلك إلا لأنهم أجبروهم على أن يُسلموا لهم عقولهم لهم يعبثون فيها كيف شاءوا دون الالتزام بما يقتضيه العقل الذي هو دليل الفطرة، قال تعالى "فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله، ذلك القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون". فمن أسباب نجاح الغرب في حياتهم الدنيا تحكيمهم الفطرة في معاملاتهم فأصابوا بذلك دين الله في جانب المعاملات فتقدموا وقعدنا لأننا أهملنا حقيقة وحتمية التغير الذي يثبته العقل السليم الذي هو دليل الفطرة التي هي دين الله. المعاملات في الإسلام، الأصل فيها الحل فيما ينفع مصالح الناس، والتحريم فيها لا يكون إلا بأصل ثابت صريح وما جاء الإسلام بتحريم معاملة إلا ونجد أن الغرب الحديث قد منعها غالبا، إما ابتداء أو بعد ثبات فشل تجربتها.
علماء السلف ـ رحمهم الله ـ قد أصلوا أصول المعاملات كلها، فالمعاملات كلها حلال إلا ما ورد النص بتحريمه. وعلماء السلف بذلوا أعمارهم ليستنبطوا عللا للمعاملات لتصبح أصولا تُدخل ما يتفق معها في العلة فتقاس على الأصل فتأخذ حكمه وتخرج ما لا يتفق معها في العلة فلا تأخذ حكمه. فهم ـ رحمهم الله ـ قطعوا الطريق على أن يُغير أصل دين الله بتغير الحوادث الحتمي في الحياة الدنيا. وهم في عصرهم الذهبي سهلوا على المسلمين فقدموا لهم أدوات وأصول وقواعد جاهزة ليفضحوا من يتلاعب بهم في تحريم أو تحليل لشهوة نفوذ أو مال.
والذي تقرر في مسألة جريان الربا في الفلوس المعاصرة سواء أخذا بالأصول أو أخذا بأبحاث هيئة كبار العلماء أو من شيوخ العلماء قديما وحديثا سواء من الديار السعودية أو من خارجها بأن الفلوس المعاصرة لا تقاس على الذهب والفضة في المشهور عند المذاهب الخمسة لأهل السنة ولا يُعلم لذلك مخالفا. وهذا ليس بجديد ولا هو بخفي فهو منصوص عليه في كتبهم ورسائلهم وبحوثهم, لكن الجديد هنا هو أن المعطيات والحيثيات، التي جعلت العلماء ـ رحمهم الله ـ يبحثون عن مخارج هنا وهناك ويلجأون إلى الشاذ من الأقوال والغريب من الأحكام لكي يجروا الربا في الفلوس المعاصرة قد تغيرت بل قد انقلبت فأصبحت تؤدي إلى ما فر العلماء منه ـ رحمهم الله. وقد كتبت في هذا كثيرا وفي هذه المسألة بالتحديد أحيل إلى مقالات ست هي: الأندلسي، ولازم قول بن عثيمين، ولازم الفتوى المعتمدة، وعواقب تقديم السياسة الشرعية، وأقول قال الله ورسوله، وكيف يفلح قوم خلطوا القرض بالبيع فقد فصلت فيها ملابسات المسألة ومن لم يفهم بعد ذلك فالله المستعان.
إذن فالقول اليوم بجريان الربا في الفلوس المعاصرة هو قول لا يستند إلا إلى سياسات شرعية لا أصل لها صريحا في كتاب أو سنة ولا مستند لها على أرض الواقع وعلى أقل ما يقال فيه إنه مسألة خلافية قديما وحديثا. ولكن البعض يستغفل البسطاء فينقل إجماع العلماء أو إجماع المجمعات الفقهية على حسم المسألة بأنها من الربا وما فعل ذلك إلا لأنه قد استخف بعقل السامع ولم يقدر ثقته بأن ائتمنه على دينه. وأول تكذيب لهذا الإجماع هو حسم مجمع البحوث الإسلامية في الأزهر أخيرا هذه المسألة بعد إعادة البحث والخروج بجواز فوائد البنوك. وقد خالف جمع من العلماء حديثا وقديما هذا الإجماع المكذوب وعلى رأسهم الشيخ الدكتور محمد بن سليمان الأشقر في عدد من المجمعات الفقهية واصفا هذا القياس بأنه قياس مهترئ وباطل.
والاحتماء خلف العظماء لمهاجمة المخالف هو ديدن الضعفاء الجبناء الذين تاهت عقولهم فسفُهت آراؤهم. ومن ذلك من يتستر وراء قول مجتهد ليدفع به الأصول الظاهرة من الكتاب والسنة, وهو ديدن من تخونه الحجة فيهرب إلى أقوال مجتهدين ماتوا واختلفت مناسبة اجتهاداتهم فيبترها وينزع عن أقوالهم مستلزماتها ولوازمها فيلبس بها على البسطاء.
 وأقوى مثال على هذا احتجاج جماهير العلماء زمن شيخ الإسلام ابن تيمية بقول أمير المؤمنين عمر وموافقة الصحابة والسلف له في وقوع الطلاق الثلاث متسترين ومتدرعين بشبه الإجماع هذا في مواجهة شيخ الإسلام ابن تيمية الذي كان يحاجج بالأصل وبالكتاب والسنة وبتغير المناسبة وزوال مسببات السياسة الشرعية التي من أجلها اجتهد الفاروق فأوقع الطلاق الثلاث. فسجنوا شيخ الإسلام، فماتوا وعاش شيخ الإسلام فجعله الله للمتقين إماما.
ومتى سلمت الأمة دينها وعقلها لأي كائن من كان، فاعلم يقينا أنها قد أضاعت دينها وأفسدت دنياها. ولكن الفصل والعذر إلى الله هو التأصيل بالدليل الثابت عن الله ورسوله وفهم السلف باستنباط لا يخالف الفطرة التي دليلها العقل. وطوائف المسلمين كغيرها من الطوائف والملل لها في عبادة علمائها من دون الله نصيب قل أو كثر، "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله" .
إن كثيرا من المنتسبين إلى الهيئات الشرعية هم من الصالحين الذين يرجون بعملهم وجه الله ولكنهم لا يتجاوزن كونهم متلقين لفتوى قديمة زالت عنها مناسباتها وحيثياتها ومقلدين لغيرهم في تحريم وتحليل. وهناك بعض من المنتسبين إلى الهيئات الشرعية في البنوك قد تستروا بظلال كبار أهل العلم فأوهموا الناس بأن لهم حق العصمة الذي لم يدعيه إلا الولي الفقيه وأن من يخالفهم فهو متطاول على الله ورسوله وما هم إلا مستشارون بنكيون لإيجاد طرق ووسائل يحتالون بها على الفتوى وتدفع لهم الأجرة على ذلك. ولو أنهم لم يكونوا كذلك لأصبحت استشاراتهم إذن فتاوى! والفتاوى تبطل إذا أخذ المفتي من المستفتي أجرا وإنما يأخذ المفتي أجره من ولي الأمر لا من الزبون الذي يستفتيه ولا أعلم لذلك مخالفا إلا ممن ينتسب إلى هذه الهيئات فلا تظلموهم وتحرموا عليهم أرزاقهم إذا اعتقدتم أن استشاراتهم فتاوى.
واعلم أنه من الخطأ ومن الظلم للهيئات الشرعية في البنوك والشركات أن تُجعل موضعا للفتوى. ومن ذلك جريان الربا في الفلوس المعاصرة، فهي عماد صناعتهم وأرزاقهم ورواجها فكيف تطلب منهم الدعوة إلى كسادها.
أو لم تر أنهم يقولون عن تمويلات المشاريع المنتجة التي تقوي الأمة وتنصر المسلمين بأنها ربا ظالم ويقولون عن القروض الاستهلاكية التي أرهقوا بها البسطاء بأنها عدل الإسلام وحكمته؟ ألم تر أنهم باعوا الشركات الخاسرة على بسطاء الناس بتسميتها بأسماء ما أنزل الله بها من سلطان كالنقية والمختلطة ونسبوا ذلك إلى عدل الإسلام بينما حرموا على البسطاء الشركات المنتجة الرابحة بوصفهم لها بأنها خاسرة لأنها حاربت الله ورسوله؟ ألم تر أنهم تستروا وراء فتاوى علماء في زمن لم تعد معطياته قائمة فافتروا وحرموا السندات وأحلوا الصكوك، ولا فرق إلا أنهم أخذوا أجورهم على الصك. فأين الفطرة في هذا؟
ويا أخي الكريم إن بعضا من الدعاة ينتصرون لهذه الهيئات لأنهم يظنون أنهم يحسنون فعلا, فضلا عن أن كثيرا منهم يجهل هذه المسائل ومنهم من يخشى القمع الممارس من بعض المنتسبين لصيرفة جحا، فلا يستخفون بك.
فإن أردت أخي القارئ الكريم أن تتعلم دينك وتبرئ ذمتك في هذه المسألة فاذهب إلى الراسخين في العلم بعد أن تستوعب ما كتبته في مقالاتي وخاصة الأربع الأخيرة مع مقال أقول قال الله والرسول واسألهم وناقشهم وأنت على علم وفهم للمسألة واطلب منهم سؤالا محددا هل ما يُطرح في هذه المقالات في هذه المسألة هو قول خلافي يحتمل الصواب كما أن المخالف قد يحتمل الخطأ، ولا تسأله عن رأيه هو في المسألة فعلى كلا الحالين فإن رأيه قد يكون صوابا يحتمل الخطأ أو خطأ يحتمل الصواب ولا تقبل فتوى مختصرة كفتاوى نور على الدرب فهو على جلالته ونفعه يختصر الفتوى لتتناسب مع السامع أو فتاوى قمعية مثل "أها بس" ثم اختر لنفسك ما شئت، ولكن التزم بكون المسألة على أقل أحوالها خلافية ولا تشنع على المخالف.
منذ ما يقارب ثلاثة أعوام ألقيت ندوة عن هذه المسألة وشرحت فيها محصلة ما كتبته من مقالات في هذا الموضوع وكان المعلق من الذين قد اغتروا ظانا بنفسه أنه من أهل العلم كما يحسبه بعض البسطاء فما زاد في تعليقه بعد انتهائي من عرض المسألة على أن قال جملة منها لفظيا "نحن العلماء طبخناها وأكلناها" ونحو ذلك مما يؤدي إلى معنى (أها بس) ولكن مع سوء أدب واستخفاف بالحاضرين.
فانقسم الحضور إلى أغلبية تسأل وتتقرب من الشيخ المزعوم وإلى أقلية تطلب مني كتابا أو بحثا أو صورة للعرض. فاختر لنفسك أي من الفريقين أنت أقرب إليه فانضم إليه.
 ذو العقل يشقى في النعيم بعقله
وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
ومن البلية عذل من لا يرعوي
عن غيه وخطاب من لا يفهم
 

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي