التنويع ثم التنويع ثم التنويع
كثيراً ما نسمع في عالم الاستثمار عن أهمية التنويع، فالمثل القديم يقول: "لا تضع بيضك كله في سلة واحدة". ولكن في كثير من الأحيان، خصوصاً في أوقات فورة الأسواق وما يترتب عنه من جشع جامح، نجد الإيمان بهذه القاعدة يتزعزع فيسمع المرء عن صديقه أو ابن عمه الذي كبّ ماله كلّه في أحد أسهم "الخشاش" وضربت معه فتضاعفت ثروته عدة مرات حتى أصبح معروفاً بـ (الشيخ عبد الرحمن) بعد أن كان (دحيّم) طيلة عمره. ولكن الدنيا دوّارة، وما يأتي بسرعة يذهب كذلك بسرعة، لذا فالتركيز الشديد هو كذلك مفتاح لخراب البيوت.
ومحاولة منّي لإيضاح أهمية التنويع اسمحوا لي أن أسرد المثال التالي:
دعونا نتخيّل متجرين متجاورين في السوق: متجر أبو محمود لبيع البوظة العربية، ومتجر أبو مسامح لبيع الحنيني. ولنفترض كذلك أن كُلاً من المتجرين يدرّ المبيعات نفسها والأرباح في العام الواحد. ولكن المتجرين يختلفان في توزيع المبيعات بين أشهر السنة المختلفة، فبطبيعة الحال أبو محمود يبيع معظم بوظته في الصيف، بينما أبو مسامح يبيع معظم حنينيه في الشتاء. وبالرغم من أن كلاً من المحليّن يحقق أرباحاً جيدة خلال السنة، إلا أن هذه الأرباح تتذبذب كثيراً بحسب الموسم. فمحل أبو مسامح قد يربح كثيراً في نصف السنة (أي في فصل الشتاء) ولا يربح شيئا في النصف الثاني، والعكس صحيح بالنسبة لأبو محمود. هذا التذبذب في الأرباح يسبب كثيرا من القلق لكل من أبو محمود وأبو مسامح، ففي نصف السنة تجدهما بخير ونعمة وفي النصف الآخر تجدهما "على الحديدة". وبعدما ضاق كل من أبو محمود وأبو مسامح بحالهما (وبعد عديد من المحاضرات من أم محمود وأم مسامح)، قرر كلاهما الاندماج مع بعضهما لتكوين محل أبو محمود وشركاه للحلوى الموسمية. بموجب الاندماج تضاعفت مبيعاتهما وأرباحهما السنوية. ولأن أبا محمود وأبا مسامح يملكان المحل الجديد مناصفة، ظل كل منهم يحصل على الدخل نفسه عبر العام، ولكن الفرق الآن أن كل منهما أصبح يحصل على المبلغ ذاته كل شهر دون زيادة أو نقصان من شهر إلى شهر وبالتالي دون تذبذب (حيث إنّ المحل يبيع بوظة نصف العالم، وحنيني في النصف الآخر). وبهذا فقد أصبح معدل التذبذب في الدخل لكل من أبو محمود وأبو مسامح صفرا. وفي عالم الاستثمار هذا شيء طيب للغاية.
المفهوم نفسه هو ما يعطي لفكرة التنويع أهميتها في عالم الاستثمار، فجمع عدد من الاستثمارات المختلفة (ولو كان كل منها يحقق عوائد متشابهة) يؤدي لخلق محفظة تحقق العائد نفسه ولكن بمخاطرة أقل، فكأنك بهذا تحصل على شيء ببلاش. وكما يقول المثل: اللي ببلاش كثِّر مِنَّه.
ولكن الشرط لتحقق هذه المعادلة السحرية هو أن يكون مُعامل الارتباط بين الفئات الاستثمارية ضعيفاً، حيث تكون حركاتها مختلفة (وإن كانت عوائدها على المدى الطويل متشابهة) ففي مثال أبو محمود وأبو مسامح كانت حركة سلعهما شبه متعاكسة، مما سبب تحسناً كبيراً في نسبة التذبذب لدى دمجهما. ولكن المنفعة تتحقق (بدرجة أقل) حتى لو كانت الفئات غير متعاكسة لطالما أنها ليست متطابقة تماماً في حركاتها، وكلما كانت حركة الاستثمارات المختلفة متباينة أصبحت الفائدة أكبر من جمعها في محفظة واحدة. لذلك فالتنويع بين الأسهم المختلفة في السوق الواحد أو الأسواق المختلفة (كالسعودي والإماراتي والهندي والأمريكي... إلخ) في الفئة الاستثمارية الواحدة (كالأسهم)، أو حتى في الفئات الاستثمارية المختلفة (كالأسهم والصكوك والمرابحات والعقار)، سيسهم في تحقيق مثل هذه النتيجة. وكلما كان بإمكان المرء التنويع على المستويات الثلاثة كلها (أوراق مالية مختلفة، في أسواق مختلفة، وفي فئات استثمارية مختلفة) كان أقل تعرضاً لأي انخفاض في استثمار بعينه، مما يعرضه لمخاطرة أقل. لهذا نقول: التنويع ثم التنويع ثم التنويع.