النجاح الباهر إنجاز أم صدفة (2 من 2)؟

في مقال سابق استعرضنا بعض ما توصل إليه الباحث الكندي مالكولم غلا دويل Malcolm Gladwell في دراسة العوامل الحقيقية التي صنعت كبار الناجحين في مجالات مختلفة في كتابه آوت لايرز Outliers، الذي يهدف إلى تفسير ظاهرة نجاح الأفذاذ، إذ إن الكاتب يميل إلى أن التفوق الباهر يعتمد على عوامل شتى أهم من الموهبة الطبيعية. ولكي نفهم سر نجاحهم، فإن علينا أن نلم بتفاصيل كثيرة أوردناها في مقالنا السابق ومنها عامل تاريخ الولادة، فقد لاحظ غلا دويل أن اللاعبين البارزين والخالدة أسماؤهم في السجلات فرق الهوكي الكندية في جميع درجاتها من مواليد الأشهر الثلاثة الأول من العام. بين أن نظام اختيار لاعب الهوكي يبدأ بمراحل المدرسة الابتدائية, ويبدو لنا من الوهلة الأولى أنه نظام عادل ومنصف، لأنه يتيح الفرصة للجميع ويعطي الأفضلية لمن يبذل جهدا أكبر ويتمتع بموهبة أميز عن سواه، ولكن الحقيقة خلاف ذلك. نظام الاختيار يعامل الصبية من مواليد العام على قدم المساواة.
يقارن المدرب مواليد تلك السنة مع بعضهم, ويختار أسرعهم وأحذقهم وأقواهم. الخدعة تكمن في النظام، إذ إنه سيخدم مواليد بداية السنة على حساب مواليد آخر السنة من العام نفسه. قد يكون هناك فرق بين المواليد يصل إلى 11 شهرا، وهذا فرق هائل بالنسبة للأطفال. ابن أول السنة أكبر جسماً وأقوى بنية وأسرع استيعابا من مواليد آخر العام. كما أن الوقت يتيح فرصة التدريب الطويلة لمواليد أول السنة، بينما مواليد آخر السنة يحتاجون إلى ما يقارب 11 شهراً من التدريب.
يمكن تعميم هذا المثال على كثير من أمور حياتنا، حيث إن عامل الوقت هو عامل محوري في صقل الموهبة وبروزها، بل إن المؤلف أكد أن عمل الوقت هو المحدد الأول للنجاح. أورد غلا دويل نظرية تقول (أعطني عشرة آلاف ساعة، أعطيك نجاحاً باهراً). يذكر أن كل من يمضي فترة عشرة آلاف ساعة في ممارسة أي نشاط، فإنه سيصل إلى مرحلة التفوق وسيُعد موهوباً. وقد عمل إحصائياته ودراساته على الطلبة الصغار الدارسين في الأكاديميات الموسيقية، ووجد أن من يمضي ثماني ساعات من التدريب أسبوعياً، سيتفوق حتماً على من لديه الموهبة نفسها، ولكنه لا ينفق ساعات طويلة في التدريب.
ومن الأمثلة الواضحة المبرمج الأسطوري بيل جوي، الذي أعاد كتابه نظام التشغيل الشهير - يونيكس - وهو الذي أسهم في ترميز الإنترنت. هذا المبرمج العبقري يشبه بيل غيتس الغني عن التعريف. أتيحت لهما وعبر سلسلة من المصادفات المدهشة والفرص التي لم تتاح لغيرهما، فكانا يمكثان ساعات طويلة أمام أجهزة الحاسوب قليلة التوافر في تلك الفترة. الاثنان استغلا الفرصة وركبا موجة تقنية الحواسيب.

المجد يصنع في الصغر وتتضاءل فرصه مع الكبر:
يتوقف المؤلف عند قصة بيل غيتس ليشرح لنا الثراء الفاحش والنجاح الباهر، ويذكر أنه من باب الصدفة وحدها. لكنه يؤكد أنه إنسان مثابر ومهووس بعمله وحاد الذكاء، فقد اغتنم الفرصة التي أتيحت أمامه، فكان الرجل المناسب في الوقت المناسب، وهذه أفضلية لم يكن له يد فيها. كان بروز عباقرة الحواسيب عام 1975م في الوقت الذي بدأ فيه الحاسوب الشخصي. وهذا يعني إذا كنت مبرمجا قضي عشرة آلاف ساعة من عمره في البرمجيات، وصدف أنك عشت عام 1975م، وكنت في العشرينيات من عمرك - وهي الفترة المثالية لخوض تجارب مجنونة أو تأسيس شركة جديدة كما هو الحال مع عباقرة وأعلام عصر الكمبيوتر- فإنك ستكون من الناجحين الأفذاذ.
يذكر الكاتب أن النجاح الفذ ليس صنيعة يد أحدنا، بل ليس لأحد الحق أن يفخر بذاته فخرا كاملاً، ولا أن ينسب الفضل لنفسه. النجاح خاضع لتدبير رب العباد، وهو أمر مكتوب وقدريً قدره، الله سبحانه وتعالى، ولكن الأخذ بالأسباب، والمثابرة، والتدريب آلاف الساعات بانتظار لحظة المجد. يبدو ـ للأسف - أن المجد يصنع باكراً في الصغر وتتضاءل فرصه مع الكبر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي