مستقبل النمو عقب الخروج من الأزمة!

تُرى ماذا يمكننا أن نتوقع الآن بعد أن بدأ اقتصاد العالم في الخروج من أشد دورات انحداره خطورة على مدى قرن من الزمان؟ الإجابة القصيرة على هذا التساؤل هي: "حالة طبيعية جديدة"، مع نمو أبطأ، ونظام مالي أساسي أقل خوضاًَ للمجازفات وأكثر استقراراً، في ظل مجموعة إضافية من التحديات (الطاقة، والمناخ، والخلل في التوازن الجغرافي السكاني، على سبيل المثال لا الحصر)، وفي إطار آفاق زمنية ستختبر قدرتنا الجمعية على تحسين أنظمة الإدارة والإشراف على الاقتصاد العالمي.
إن انخفاض مستويات النمو هو التخمين الأقرب إلى الصدق بالنسبة للأمد المتوسط. فهذا يبدو الأكثر ترجيحاً، ولكن لا أحد يستطيع أن يجزم بذلك حقاً. ذلك أن الأزمة المالية التي تحولت بسرعة إلى دورة انحدار اقتصادي عالمي، لم تكن ناتجة عن الفشل في التعامل مع عدم الاستقرار المتنامي والمجازفة واختلال التوازن فحسب، بل كانت الأزمة أيضاً نتاجاً للعجز الذي انتشر على نطاق واسع قبل اندلاع الأزمة عن "رؤية" المخاطر الشاملة الناشئة.
ستعمل هذه السمات المحدِدة على مواءمة الاستجابات والنتائج على مدى الأعوام المقبلة. وهناك قوى مضادة تلعب دورها. فالبلدان ذات معدلات النمو المرتفعة (الصين والهند) ضخمة وما زال حجمها مستمراً في التضخم نسبة إلى بقية بلدان العالم. وهذا وحده من شأنه أن يميل إلى رفع مستوى النمو العالمي مقارنة بصورة العالم سابقاً حين كانت البلدان الصناعة، والولايات المتحدة بصورة خاصة، تحتل مقعد السائق في مركبة النمو العالمي.
إن بعض الخبراء يطلقون على الأزمة الحالية اسم "ركود دفاتر الموازنة"، وهو الركود الذي اتخذ نطاقاً عالمياً وبلغ أعماقاً هائلة وامتلك قوة مدمرة بسبب عودة أصوله إلى دفاتر موازنة القطاعات المالية وقطاعات الإسكان. وما جعل هذا الركود متميزاً أن الدمار الذي لحق بدفاتر الموازنة كان شديداً للغاية. وفي المستقبل لن يكون في وسع البنوك المركزية أو الأجهزة الرقابية والتنظيمية أن تتحمل التبعات المترتبة على التركيز الضيق على (السلع والخدمات) والتضخم، والنمو، وتشغيل العمالة (الاقتصاد الحقيقي) والسماح في الوقت نفسه لجانب دفاتر الموازنة بتدبر أموره بنفسه. وفي منطقة ما من النظام سيكون لزاماً علينا أن نتعامل بجدية مع أمور مثل توزيع وتحديد المسؤولية عن الاستقرار والاستدامة فيما يتصل بتقييم الأصول، والروافع المالية، ودفاتر الموازنة.
ولا بد أن تهتم عملية إعادة التنظيم المالي بالتأكيد على رأس المال، والاحتياطي، والمتطلبات الهامشية؛ والحد من تراكم المخاطر والمجازفات الشاملة من خلال تقييد الروافع المالية، وإزالة أوجه القصور والتجزؤ التي تعيب التغطية والمراجحة التنظيمية (وهو تحدٍ ضخم على المستوى الدولي)؛ والتركيز على الشفافية. ومن المرجح أيضاً أن يتم عزل وتقييد جزء من النظام المصرفي في المستقبل، حتى تصبح قنوات الوساطة الخاصة بالائتمان أقل ميلاً إلى الانهيار التام والمتزامن.
سترتفع تكاليف رأس المال نسبة إلى الماضي القريب، وستكون الديون أكثر تكلفة وأقل توافراً، ولن يعود توزيع المجازفة إلى المستويات المضغوطة التي كان عليها قبل الأزمة. ولن تختفي فقاعات الأصول، ولكن من غير المرجح أن تتضخم هذه الفقاعات نتيجة للعودة إلى استخدام الروافع المالية.
سترتفع معدلات الادخار وتنخفض مستويات الإنفاق بين الأمريكيين، الذين سيهجرون النمط المعيشي الذي تعودوا عليه طيلة الأعوام القليلة الماضية. أما الفجوة الضخمة في إجمالي الطلب العالمي (والتي بلغت 700 مليار دولار)، فلا بد أن يتم سدها مع الوقت من خلال تعويض الزيادة في الاستهلاك في البلدان ذات الفائض، مثل الصين واليابان. وكلما استغرق هذا الأمر وقتاً أطول كلما تعاظمت الدوافع على المستوى الوطني إلى محاولة الاستحواذ على حصة في الطلب العالمي من خلال اتخاذ تدابير الحماية.
كانت الزيادة الأخيرة في تدابير الحماية بمثابة ثمن سياسي مفهوم لنطاق عريض من خطط التحفيز التي استعان بها عدد كبير من البلدان المتقدمة والنامية. غير أن مثل هذه التدابير قد تتزايد ـ وسيكون التخلص منها أشد صعوبة مع الوقت ـ في سياق العجز في الطلب الكلي.
هذه هي النسخة المتطورة من قضية اختلال التوازن العالمي. وحل هذه القضية من خلال العمل السياسي المنسق (أو الفشل في حلها من خلال مثل هذا العمل) سيخلف تأثيراً هائلاً (إيجاباً أو سلباً) في البنى التحفيزية متعددة الجنسيات التي تحيط بالاقتصاد العالمي ـ وبالتالي على نموه المحتمل.
إن المسؤولية عن الإشراف على الاقتصاد العالمي تمر سريعاً من مجموعة السبع/الثماني إلى مجموعة العشرين، كما ينبغي لها. ذلك أن المجموعة الأخيرة تمثل 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتؤوي ثلثي سكان العالم، لذا فإن هذا التحول مرغوب إلى حد كبير ـ بل إنه يشكل ضرورة أساسية.
ولكن الخطر ما زال قائماً في أن يعاني الثلث المتبقي من سكان العالم (وأغلب البلدان الصغيرة) من القصور في التمثيل مع تطور الهيكل الدولي اللازم لإدارة الاقتصاد العالمي.
في الأزمة الحالية أصبح قسم كبير من البلدان غير الملتحقة بعضوية مجموعة العشرين عاجزاً إلى حد كبير: حيث يغلب على ذلك القسم الاقتصاد الضعيف، وعدم القدرة على اتخاذ تدابير التحفيز، وعجز الاحتياطيات اللازمة لمعادلة تدفقات رأس المال المتوجهة نحو الخارج والتي نشأت بهدف دعم دفاتر الموازنة المخربة في أسواق البلدان المتقدمة. في داخل بلدان مجموعة العشرين، هناك آليات مخصصة لرعاية مصالح المواطنين الأكثر ضعفاً. وفي إطار الاقتصاد العالمي فإن الطرف الأضعف والأكثر عُـرضة للخطر يتألف من بلدان كاملة. وعدم الالتفات إلى مصالح هذه البلدان لا يشكل قضية أخلاقية فحسب، بل وقد يقودنا أيضاً إلى قضية اجتماعية واقتصادية متفجرة.
ونتيجة لهذا فلا بد من تعزيز المؤسسات الاقتصادية الدولية فيما يتصل بالحكم وتدبير الموارد، حتى يتسنى لها أن تعمل كأداة لقطع التيار في حالة حدوث اضطرابات مالية واقتصادية في المستقبل. كان صندوق النقد الدولي حين ضربته الأزمة يعاني نقصا في التمويل، وما زال حتى الآن مفتقراً إلى المصداقية والثقة في بعض الأجزاء المهمة من العالم. والآن يخضع صندوق النقد الدولي لعملية تحسين التمويل، ولكننا الآن نشهد الشهر الثامن من الأزمة التي أصبحت تدفقات رأس المال الدولي بسببها متقلبة ومدفوعة إلى حد كبير باستجابات طارئة بدلاً من الأساسيات الاقتصادية.
وهنا تتبقى مسألة مركزية تتعلق بالثقة بالنظام، وهي الثقة التي لحق بها أشد الضرر وستتطلب محاولات إعادة بنائها الوقت والجهد. في الوقت الحاضر يميل رأي الأغلبية في معظم بلدان العالم إلى أن النظام المالي كان فاشلاً على نحو فادح، غير أن الحوافز والآليات القائمة على نظام أعرض نطاقاً يعتمد على السوق في إطار بنية عالمية منفتحة نسبياً تظل تشكل أفضل السبل لخلق الثروات، والحد من الفقر، وتوسيع الفرص. وبطبيعة الحال هناك منشقون، وقد ينقلب التوازن سريعاً. وليس من المستبعد أن نتسبب في إلحاق المزيد من الضرر والأذى بالاقتصاد العالمي في محاولاتنا لتطهيره وإصلاحه.
ليس بوسع أحد أن يزعم أنه يمتلك حلاً سحرياً للأزمة التي نعيشها اليوم. والسبيل الأمثل الذي يتعين علينا أن نسلكه يتلخص في محاولة إحراز التقدم العملي المضطرد على المستويين الوطني والدولي في تحسين البنية التنظيمية وزيادة قدرتنا الجمعية على تجنب السلوكيات غير التعاونية. وهذا هو المسار الذي نسير عليه بالفعل، ولكنها في الواقع رحلة بلا مقصد نهائي محدد المعالم أو مقبول على نطاق واسع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي