هل يطبق أوباما مبدأ ستيمسون على الاحتلال الإسرائيلي؟
في يوم الخميس 11/6/1430هـ الموافق 4/6/2009م، وقف الرئيس الأمريكي باراك حسين أوباما في قاعة جمال عبد الناصر للاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، مخاطبا العالم الإسلامي بهدف فتح صفحة جديدة في علاقات الولايات المتحدة مع العالم الإسلامي، وفي مقدمته الأمة العربية، إذ قال "لقد أتيت إلى القاهرة للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم استنادا إلى المصلحة المشتركة والاحترام المتبادل، وهي بداية مبنية على أساس حقيقة أن أمريكا والإسلام لا يعارضان بعضهما بعضا ولا داعي أبداً للتنافس فيما بينهما، بل لهما قواسم ومبادئ مشتركة يلتقيان عبرها، ألا وهي مبادئ العدالة والتقدم والتسامح وكرامة كل إنسان".
لا شك أن خطاب الرئيس أوباما حظي باهتمام بالغ من جميع الأوساط السياسية والثقافية وشرائح اجتماعية مختلفة في العالم الإسلامي، ولست هنا بصدد رصد أصداء هذا الخطاب لدى المسلمين، بيد أنه يمكن القول بصفة إجمالية إن الخطاب بأسلوبه ومضامينه يشكل علامة فارقة في تاريخ العلاقات بين الولايات المتحدة والعالم الإسلامي.
وأود هنا أن أسلط بعض الضوء على موقف الرئيس أوباما حيال قضية فلسطين التي جعلها المصدر الثاني لتوتر علاقات أمريكا مع المسلمين، إذ اعتبر التطرف العنيف بجميع أشكاله المصدر الأول، وكان الأصح أن يجعل قضية فلسطين المصدر الأول لهذا التوتر، لأن التطرف العنيف هو إحدى نتائج مأساة شعب فلسطين.
لقد مهد أوباما حديثه عن قضية فلسطين بالحديث عن متانة أواصر الروابط بين أمريكا وإسرائيل وديمومتها والإشارة إلى معاناة اليهود على مر القرون ثم تحدث عن معاناة الشعب الفلسطيني، فقال إنه "لا يمكن نفي أن الشعب الفلسطيني مسلمين ومسيحيين قد عانوا أيضا في سعيهم إلى إقامة وطن خاص لهم. وقد تحمل الفلسطينيون آلام النزوح على مدى أكثر من 60 سنة، حيث ينتظر العديد منهم في الضفة الغربية وغزة والبلدان المجاورة لكي يعيشوا حياة يسودها السلام والأمن، هذه الحياة التي لم يستطيعوا عيشها حتى الآن. يتحمل الفلسطينيون الإهانات اليومية، صغيرة كانت أم كبيرة، التي هي ناتجة عن الاحتلال. وليس هناك أي شك في أن وضع الفلسطينيين لا يطاق، ولن تدير أمريكا ظهرها لتطلعات المشروعة للفلسطينيين ألا وهي تطلعات الكرامة ووجود الفرص ودولة خاصة بهم.
لقد استمرت حالة الجمود إذن لعشرات السنوات: شعبان لكل منهما طموحاته المشروعة، ولكل منهما تاريخ مؤلم يجعل من التراضي أمرا صعب المنال، إن توجيه اللوم أمر سهل، إذ يشير الفلسطينيون إلى تأسيس دولة إسرائيل وما أدت إليه من تشريد للفلسطينيين، ويشير الإسرائيليون إلى العداء المستمر والاعتداءات التي يتعرضون لها داخل حدود إسرائيل وخارج هذه الحدود على مدى التاريخ. ولكننا إذا نظرنا إلى هذا الصراع من هذا الجانب أو من الجانب الآخر، فإننا لن نتمكن من رؤية الحقيقة، لأن السبيل الوحيد للتوصل إلى تحقيق طموحات الطرفين يكون من خلال دولتين يستطيع فيهما الإسرائيليون والفلسطينيون أن يعيشوا في سلام وأمن.
إن هذا السبيل يخدم مصلحة إسرائيل ومصلحة فلسطين ومصلحة أمريكا ومصلحة العالم، ولذلك سوف أسعى شخصيا للوصول إلى هذه النتيجة، متحليا بالقدر اللازم الذي تقتضيه هذه المهمة من الصبر والتفاني. وإن الالتزامات، التي وافق عليها الطرفان بموجب خريطة الطريق هي التزامات واضحة. لقد آن الأوان من أجل إحلال السلام، لكي يتحمل الجانبان مسؤولياتهما، ولكي نتحمل جميعنا مسؤولياتنا كذلك".
ثم دعا أوباما الفلسطينيين إلى نبذ المقاومة عن طريق العنف، لأنها في نظره أسلوب خاطئ ولا يؤدي إلى النجاح، ودعا حركة حماس إلى أن تعترف بالاتفاقات السابقة التي أبرمتها السلطة الفلسطينية مع إسرائيل وأن تعترف بحق إسرائيل في البقاء حتى يمكن أن تؤدي دورها في تلبية طموحات الفلسطينيين وتوحيد الشعب الفلسطيني. وفي الوقت نفسه قال إنه "يحب على الإسرائيليين الإقرار بأن حق فلسطين في البقاء هو حق لا يمكن إنكاره، مثلما لا يمكن إنكار حق إسرائيل في البقاء. وإن الولايات المتحدة لا تقبل مشروعية استمرار المستوطنات"، ووصف الرئيس أوباما عمليات بناء هذه المستوطنات بأنها "تنتهك الاتفاقيات السابقة وتقوض من الجهود المبذولة لتحقيق السلام". وقال "لقد آن الأوان لكي تتوقف هذه المستوطنات".
وهنا لنا وقفة للتعليق فأقول ما يلي:
أولا: إن الاضطهاد الذي تعرض له يهود أوروبا، خاصة في ألمانيا النازية، لا يصح أن يكون مسوغا قانونيا ولا أخلاقيا لجريمة تشريد غالبية الشعب الفلسطيني من أرضه وأرض آبائه وأجداده منذ فجر التاريخ وإحلال محله خليط من قوميات شتى لا تجمعه رابطة سوى الرابطة الدينية. ولعل من المناسب أن أشير في هذا الصدد إلى خبر تناقلته بعض وسائل الإعلام في 27/12/2008 مفاده أن الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي "شلومو ساند" ألّف كتابا بعنوان "متى وكيف اخترع الشعب اليهودي"، أثبت فيه أنه لا يوجد شعب يهودي لا في الماضي ولا في الحاضر، وأن اليهود مثل المسيحيين والمسلمين تشكلوا من أعراق وقوميات مختلفة اعتنقوا هذه الديانة عبر التاريخ. وأضاف المؤرخ الإسرائيلي قائلا "إن فكرة وجود شعب يهودي ظهرت فقط في القرن التاسع عشر نتيجة لتأثر بعض المثقفين الألمان من اليهود بفكرة القومية الألمانية، وبدأ هؤلاء المثقفون في إعادة صنع واختراع الشعب اليهودي، وذلك بأثر رجعي إلى ما سموه أسطورة دولة ومملكة داود الخرافية". وأوضح أيضا أنه لم يكن هناك أي مرجع يدل على أن هناك عملية سبي أو تهجير لليهود في فلسطين، كما يوضح الكاتب والمؤرخ الإسرائيلي شلومو في كتابه إنه لم يجد أي مرجع ديني أو يهودي أو تاريخي يذكر حادثة "السبي المزعومة".
ثانيا: إن مقارنة الرئيس أوباما مأساة الفلسطينيين بمأساة الزنوج في أمريكا لم تكن مقارنة صحيحة، فالزنوج كانوا يناضلون داخل دولتهم الأمريكية من أجل الحصول على حقوق المواطنة كاملة أسوة بالمواطنين البيض، بينما الفلسطينيون يناضلون من أجل حق تقرير المصير واسترداد حقوقهم الوطنية المغتصبة وإقامة دولتهم المستقلة على ترابهم الوطني.
ثالثا: إن السياسة العدوانية التوسعية الإسرائيلية وممارسات إسرائيل القمعية ضد الشعب الفلسطيني جعلتا من المقاومة الفلسطينية المسلحة خيارا لا مندوحة عنه وجميع الشعوب التي كانت رازحة تحت الاحتلال والسيطرة الأجنبية لم تنل حقها في تقرير المصير واستقلالها وحريتها إلا بالكفاح المسلح بما في ذلك الشعب الأمريكي الذي قاوم الاحتلال البريطاني مقاومة مسلحة بقيادة جورج واشنطن. يضاف إلى ذلك أن الحق في المقاومة المسلحة من أجل الحرية وحق تقرير المصير والاستقلال حق مشروع وتقره قواعد القانون الدولي. ولذلك فإنه لا يصح مطالبة الفلسطينيين بالتخلي عن خيار المقاومة وهم يتعرضون يوميا لاعتداءات الجنود والمستوطنين اليهود.
رابعا: من الأخطاء الشائعة أن إسرائيل دولة بلا حدود محددة، واعتمادا على هذا الخطأ الذي تروجه إسرائيل يزعم قادة إسرائيل أن الأراضي الفلسطينية المحتلة خلال حرب 1967م ليست أراضي محتلة وإنما أراض متنازع عليها، وقد فندت هذه الأكذوبة في مقال سابق منشور في جريدة "الاقتصادية" بتاريخ 13/1/1430هـ الموافق 10/1/2009 بعنوان "حدود إسرائيل وحق الدفاع عن النفس"، حيث قلت ما يلي:
"إذا تجاوزنا الحقيقة التاريخية بأن اليهود الغزاة أسسوا إسرائيل بالقوة والإرهاب في فلسطين، التي تعد إقليما عربيا، وأنه لا توجد مشروعية قانونية صحيحة لحيازة إسرائيل هذا الإقليم العربي وممارسة السيادة عليه، وسايرنا منطق القبول بالأمر الواقع، فإنه يمكن القول إن حدود إسرائيل قد تم تحديدها على نحو صريح في الرسالة التي وجهتها أول حكومة إسرائيلية إلى حكومة الولايات المتحدة بتاريخ 14/5/1948، حيث أقرت فيها أن إقليمها ينحصر في النطاق الذي حدده قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في 29/11/1947 الخاص بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية. وقد اعترفت الولايات المتحدة بإسرائيل على هذا الأساس، كما أن إسرائيل لم تقبل في عضوية هيئة الأمم المتحدة إلا بعد تعهدها رسميا بقبول قرارات هذه "الهيئة"، خصوصا القرار الخاص بالتقسيم. وطبقا لهذا القرار الذي قبلت به إسرائيل وأعلنت التزامها به واعترفت بموجبه الحكومة الأمريكية بدولة إسرائيل، فإن كل أرض احتلتها إسرائيل خارج ذلك النطاق الإقليمي تعد أرضا محتلة. والاحتلال طبقا لقواعد القانون الدولي يعد جريمة دولية ضد السلام".
خامسا: لقد كان للولايات المتحدة الأمريكية دور بارز ومهم في ترسيخ المبدأ الذي استقر في القانون الدولي المعاصر الخاص بتحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة. فقد وضعت الولايات المتحدة هذا المبدأ موضع التطبيق في موقفها المعارض لاستيلاء اليابان بالقوة المسلحة على بعض أراضي إقليم منشوريا الصينية خلال الاشتباكات التي وقعت بين اليابان والصين عامي 1931 و1932، إذ بعث "ستيمسون" وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك رسالة إلى كل من الصين واليابان بمناسبة النزاع الذي كان دائرا بينهما، أكد فيها أن أي تغيير في الأوضاع الإقليمية يتم عن طريق القوة أمر لا يمكن الاعتراف به". وقد اعتبر بعض فقهاء القانون الدولي العام أن هذه الرسالة تعد أحد الجهود التي بذلت قبل إنشاء هيئة الأمم المتحدة من أجل ترسيخ مبدأ تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة وسموه مذهب أو مبدأ "ستيمسون". وقد أكد المستر "ستيمسون" في خطاب آخر وجوب وإعمال هذا المبدأ، وأنه لا يجوز للمعتدي أن يجني ثمار عدوانه No Fruits Of Aggression.
سادسا: لقد طبقت الولايات المتحدة الأمريكية مبدأ ستيمسون في قضايا دولية سابقة، منها قضية العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، حيث وقفت وقفة حاسمة ضد هذا العدوان ومارست ضغوطا لإجبار القوات الغازية على الجلاء من الأراضي المصرية، كما قادت تحالفا دوليا لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي في عهد صدام حسين.
سابعا: إن الولايات المتحدة الأمريكية تدرك أن إسرائيل لن تنسحب من الأراضي الفلسطينية إلا إذا أجبرت على ذلك، وليس من سبيل في الوقت الراهن إلى إجبار إسرائيل على الانسحاب من هذه الأراضي إلا إذا تمسكت الولايات المتحدة بقوة بمبدأ "تحريم الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة"، واتخذت الإجراءات والتدابير الكفيلة بتحرير الأراضي الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي ومساعدة الفلسطينيين على إنشاء دولتهم المستقلة ذات السيادة.
ثامنا: إن الرئيس الأمريكي باراك أوباما قد درس القانون في جامعة هارفرد العريقة، ويعلم جيدا أن الممارسات الإسرائيلية القمعية والوحشية ضد شعب فلسطين قد انتهكت جميع القواعد القانونية والأخلاقية الدولية، والمطلوب أن تقوم الولايات المتحدة في عهده بإخضاع إسرائيل للقانون الدولي، فهل سيجد المسلمون عنده عزما على ذلك؟
هذا هو السؤال الذي يبحث عن إجابة.