المحروقات: استنزاف وتبذير للثروة ليس له حدود!

يدور هذه الأيام نقاش حاد حول الأزمة التي برزت بسبب الاستهلاك الزائد للمشتقات البترولية، مثل البنزين والديزل، في المملكة، وما يلقيه ذلك من عبء على الحكومة لتوفير الكميات المطلوبة، فضلاً عن تأثيره السلبي في قدرة المملكة على التصدير، ويلاحظ أن النقاش، الذي يدور، كان في بعض جوانبه صحياً، لولا وقوع بعض من شارك فيه في إشكالية الخلط، وعدم التفريق بين المصلحة الوطنية الشاملة والمصلحة الفردية القاصرة، أو الاكتفاء بالنظر إلى الموضوع من الزاوية ذات التأثير المباشر للناظر إلى الموضوع، وتغييب النظرة الشمولية ذات البعد المستقبلي المرتبط بالوطن ككل، ناهيك عن محاولة المزايدة على مصلحة المواطن وكأنها منفصلة عن مصلحة الوطن!..
ولكي ألخص المشكلة للقارئ الغائب عن الحوار الذي يدور، أشير إلى أن استهلاك المملكة من المشتقات البترولية يزداد زيادة كبيرة كل سنة على الأخرى، وأنه لو لم تكن المملكة من أكبر الدول المنتجة للبترول لأصبحت عاجزة عن توفير متطلبات الاستهلاك المحلي، الأمر الذي نشأ وينشأ عنه عدة مشكلات منها:
- التأثير سلبا في الكمية المخصصة للتصدير، وهي المصدر الأكبر لتغذية الخزانة.
- عدم قدرة المصافي المحلية على توفير الاحتياج.
- استيراد المشتقات البترولية بشكل مستمر، بعد أن كانت المملكة أكبر مصدر للبترول.
- التهريب بمختلف الوسائل إلى الدول المجاورة.
- الهدر في الاستهلاك لغير الأغراض المخصص لها.
- توقف بعض محطات الوقود بسبب نقص البنزين.
ويعلم الجميع أنه كان لدينا نوع وحيد من البنزين إلى وقت قريب، عندما أخذت "أرامكو" تنتج نوعين منه (أوكتان 91 و95) متأخرة عن غيرها من الشركات عدة عقود، وحددت لهما سعراً هو 60 و75 هللة للتر على التوالي، لولا أن خادم الحرمين الشريفين أصدر أمره بتخفيض السعر إلى 45 و60 هللة، كما هو معمول به الآن، مستهدفاً بذلك مصلحة المواطنين، واستفادتهم من هذا التخفيض، ليس فقط في سعر البنزين الذي تستهلكه سيارة المواطن العادي، وإنما في خفض تكاليف معيشته بوجه عام عن طريق خفض تكلفة الخدمات والأسعار التي يدخل البترول في تكاليفها كالنقل للبضائع، ونقل الأفراد بالسيارات والطائرات والقطارات، وسائر الخدمات الأخرى!...، بيد أنه لم يظهر أي تأثير مباشر في حياة المواطن من هذه الجوانب، بل إن الملاحظ هو العكس، حيث تكالب البعض على الاحتكار، وزيادة الأسعار، وكانت النتيجة أن المستفيد الأكبر من خفض سعر المحروقات هو الشركات التي تملك أعداداً كبيرة من الشاحنات والسيارات، وكذلك العائلات الغنية، التي تزدحم أفنية بيوتها بالسيارات!...، أما المواطن العادي الذي لا يملك إلا سيارة واحدة من نوع بيك أب، أو شرق آسيوية، أو حتى لا يملك سيارة، فإنه لم يستفد، أو أن استفادته محدودة، رغم أنه المقصود بالتخفيض!...
أما الخسائر على المواطن والوطن ككل فكانت مضاعفة، مثلما يأتي:
1- إن تصريف برميل واحد من البترول في الداخل لا يحقق حتى ربع القيمة التي يباع بها عند تصديره.
2- إن انخفاض السعر بنسبة كبيرة عن الدول المجاورة، ومنها الدول البترولية، أغرى بالتهريب بطرق شتى، بعضها منظور وأكثرها غير منظور، ولو لم يحصل منه سوى ملء خزانات الشاحنات والسيارات (الأساسية والإضافية) عند دخولها المملكة أو عبورها، ومنها ما يدخل فقط لهذا الغرض!... لكفى، لكنه أصبح يهرب بطرق مبتكرة، ومنها ظهور الحمير، ويهدر في غسل العدد والمعدات والورش!...
3- انخفاض سعر البنزين والديزل أغرى بامتلاك السيارات من قبل المواطنين والمقيمين، فالسيارات المستعملة، وخاصة المتهالكة، رخيصة، والوقود رخيص، وليس هناك تشديد على الالتزام بنظام المرور، فالكل يستطيع أن يشتري سيارة ويتعلم فيها القيادة في شوارعنا، وهو ما يزيد من الضغط على المحروقات!...
4- فتح أبواب الاستقدام على مصاريعها بشكل جعل المواطن يشعر بالغربة في بلده، أغرى هو الآخر بامتلاك السيارات من قبل المقيمين، فكثير منهم لا يحلم بامتلاك السيارة في بلده، لكن هذا الحلم يصبح في متناول يده في المملكة، ومن ثم فإن ازدياد أعداد المقيمين تضغط هي الأخرى على المحروقات!...
5- انفراد المملكة من بين دول العالم بعدم وجود نقل عام فيها يستخدمه كل من لا يستطيع امتلاك وسيلة النقل، أجبر الناس على تملك وسيلة النقل الخاصة بهم، إما مستعملة بثمن زهيد، وإما جديدة عن طريق التقسيط غير المريح!..
6- مشكلة التلوث المتفاقمة في مدن المملكة معزوّة في جانب كبير منها إلى انخفاض سعر الوقود، وإذا علم أن هناك ما لا يقل عن 450 ألف سيارة جديدة تدخل شوارعنا كل عام، وتنفث دخانها، وتتعاون هي وموجات الغبار المقيمة على تدمير أجهزتنا التنفسية!.. أمكن تصور المشكلة!. وإذاً: نستخلص أولا من هذا التحليل أن المواطن العادي المقصود بالتخفيض أصبح أقل الفئات استفادة من هذا التخفيض، كما رأينا، ولنا أن نقارن بين من يملك 100 سيارة أو أكثر، ومن يملك سيارة واحدة!...
وما نستخلصه ثانيا أن هناك مشكلات كبيرة سبّبها أو فاقم منها انخفاض سعر الوقود مثل التلوث البيئي وضرره الصحي، وازدحام المدن بالسيارات والخسائر الاقتصادية والوطنية من حوادث السيارات!..
وما نستخلصه أخيرا أن الأمر بحاجة ماسة إلى المراجعة، وإعادة الحسابات، وتعميق الرؤية، واستشراف المستقبل، وأخذ كل الأمور في الحسبان، واستهداف المصلحة الوطنية العليا عند النظر في الحلول المطروحة ومنها:
1 ـ إعادة هيكلة الأسعار بشكل يحد من الاستنزاف والهدر، ولا يضار منه المواطن.
2 ـ الإسراع في حل مشكلة النقل العام.
3 ـ دراسة رفع الرسوم الجمركية على السيارات ذات الاستهلاك العالي للمحروقات، وهو تقليد متبع في بعض الدول!.. والله من وراء القصد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي