ليست القضية أبيض أو أسود
قد يظن البعض أننا نناقض أنفسنا في هذا المقال مقارنة بسابقيه، ولكن فليعَلِّقوا الحكم قليلا حتى يسمعوا المرافعة.. نعم، لقد قلنا إن كلا من المرأة والرجل هُيِّئا فطريا لأدوار معينة كأولويات أكثر من غيرها، أو فلنقل كرسالة حياة.. وقلنا أيضا إن المرأة بفطرتها السليمة تميل إلى الاستقرار والتربية والرعاية وكل ما يقتضيه ذلك.. فلا تقلقوا، نتذكر ذلك جيدا.. إلا أن ذلك لا يعني أن نقول للنساء: عُدن إلى بيوتكن، ولا تخرجن منها إلا إلى بيوت أزواجكن أو إلى لقاء بارئكن كما تجري المقولة.. فهذا من علامات التفكير الحدّي الذي عادة ما يخلق مشكلة لا وجود حقيقيا لها إلا في العقول، وهذا من أخطاء منهج التفكير المعروفة حتى إن له اسما في علم المنطق "المشكلة المُتَخيَّلة" ففي قضيتنا هذه يصبح تعريف المشكلة كالآتي: إما أن تعمل المرأة وتهمل بيتها، وإما أن نرفض إهمالها بيتها وبالتالي "وبخطأ آخر في منهج التفكير" نرفض عملها على الإطلاق،أي" يا أبيض يا أسود! والوهم هنا هو في تخيل عدم إمكانية حل ثالث: أن تفهم المرأة أولوياتها وتحققها، وفي الوقت نفسه تعمل وتكسب الرزق وتسهم في مجتمعها دون تقصير في دورها الأساس.. معادلة صعبة؟ قد تكون كذلك، ولكن صعوبتها لا تقتضي استحالتها، لأن أسباب صعوبتها تكمن في جمود التفكير وكسله وليس في استحالة حلها في الواقع فمثلا، أليس ممكنا أن نُسَهِّل تحقيق هذه المعادلة في حال أعدنا النظر في شكل العمل نفسه، بمعنى: هل يقتضي العمل بالضرورة الوظيفة الرسمية في جهة ما بدوام محدد وإجازات محددة؟ أم أننا في عصر يُمَكِّننا من ابتكار أشكال وآليات أخرى مناسبة ومفيدة للمرأة وللمجتمع ككل؟ ومن هذه الأشكال العمل الحر "أي بالقطعة أو بالإنتاجية مثل المبرمج الذي يتقاضى أجرا على كل برنامج يصممه لأي جهة"، أيضا هناك العمل من البيت، وهي طريقة باتت عادية ومعتمدة في الغرب، كما أنها يمكن مواءمتها لعدد كبير من الأعمال والوظائف، حيث أصبح من السهولة أن تتم المحاضرات أو الاجتماعات - مثلا - عبر الإنترنت، فهل من العقل عدم استغلال ذلك؟
وحتى في مجال الوظائف العادية يمكن إعانة المرأة على التوفيق بين بيتها وحاجتها أو رغبتها في العمل سواء بتفعيل الدوام الجزئي، أو بتفعيل إنشاء الحضانات الصالحة في كل مكان عمل، أو بابتكار حلول أخرى جديدة بالاستفادة من آراء وتجارب الأمهات العاملات أنفسهن.. ولا شك أن ذلك يتطلب تعاونا من جهات كثيرة تقوم بدورها في هذا الخصوص، بتغيير القوانين البالية أو باستحداث قوانين جديدة مناسبة أو بالرقابة التي تُلزِم جهات العمل بواجبها في هذا الجانب.. وكل هذا لماذا؟ لأن حل هذه المشكلة التي تعانيها أغلب المواطنات العاملات من حقّهن أولا.. ثم هو من حق أطفالهن وأسرهن.. وأخيرا هو من المصلحة العامة للمجتمع كله.. أم أننا نحتاج لدوافع إضافية أهم من ذلك!؟