الوطنية النفطية والنزعة الاستعمارية

يقصد بمصطلح (الوطنية النفطية) في أدبيات الفكر السياسي الغربي سيطرة الدولة على مواردها النفطية استخراجا وإنتاجا وبيعا وتصديرا، وشاع هذا المصطلح في عقد السبعينيات من القرن العشرين الميلادي، حيث استطاعت الدول النامية المنتجة والمصدرة للنفط أن تسيطر تدريجيا على مواردها النفطية وتنهي سيطرة ودور شركات النفط العملاقة الغربية متعددة الجنسيات التي حصلت على عقود امتياز استخراج واستغلال النفط والغاز بشروط مجحفة بحقوق الدول المنتجة، في وقت كانت فيه هذه الدول تعيش في حالة تخلف شديد وفقر مدقع كما كان معظمها يزرح تحت السيطرة الأجنبية. في مقالة بعنوان (بترول الخليج والسياسة الدولية) المنشور في مجلة "الأموال" العدد الأول سنة 1996، وصف الأستاذ أحمد زكي يماني، وزير البترول والثروة المعدنية السعودي الأسبق، في عبارات موجزة جامعة، أوضاع هذه الشركات النفطية آنذاك وصفا دقيقا، حيث قال:
(وعندنا باشرت الشركات المذكورة استثماراتها، كانت بمثابة دول ذات حصانة ونفوذ، دخلت دولا مضيفة مكتوفة اليد بمعزل عن ثروتها، محرومة من اتخاذ أي قرار بشأنها، وليس لها أن تطمع في حق يتجاوز تسلم إيراد خصص لها.
وكانت الشركات البترولية في حقيقتها أجهزة تجارية سياسيا لدولة كبرى تمارس نشاطا يخرج كثيرا عن حدود التجارة والصناعة ويمتد ليشمل حتى أجهزة الاستخبارات الخاصة. ومنذ أوائل السبعينيات الميلادية بدأت شركات البترول تفقد مكانتها السياسية، وحصانتها الدبلوماسية، واستعادت الدول المنتجة بشكل تدريجي سيادتها على ثروتها البترولية).
ولقد اهتمت هيئة الأمم المتحدة منذ وقت مبكر بموضوع سيادة الدول على مصادر ثرواتها ومواردها الطبيعية وأصدرت بشأنه عديدا من القرارات التي تؤكد هذا الحق وتدعو جميع الدول إلى احترامه والالتزام به.
ففي 21 كانون الأول (ديسمبر) 1952 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارا تؤكد فيه سيادة الدول وحريتها التامة في استعمال واستغلال ثرواتها الطبيعية وعدم خضوعها في ذلك لسيطرة دولة أخرى سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. كما أصدرت الجمعية العامة قرارا آخر في سنة 1955 ينص صراحة على حرية الشعوب في التصرف في ثرواتها ومواردها الطبيعية، بحيث لا يتعارض ذلك مع الالتزامات الناشئة عن التعاون الاقتصادي الدولي، التي تقوم على أساس القانون الدولي. ثم أصدرت قرارا آخر في سنة 1962 اعترف بحق الدولة في الاستئثار بوضع وتنظيم شروط استغلال ثرواتها الطبيعية بما يحقق مصالحها الاقتصادية وحقها في إصدار الامتيازات وإنهائها بالمصادرة والتأميم مع اشتراط التعويض العادل في كل حالة، إذا ما تطلبت ذلك المصلحة العليا للدولة، إلى جانب التزام الدول بأن تفسح للمستثمر الأجنبي من إجراءات التقاضي في نظامها القانوني ما يسمح له بالحصول على حقه بعد التأميم أو المصادرة، وأكد القرار المذكور أن انتهاك حق الشعوب والأمم في مباشرة سيادتها الدائم على ثرواتها ومواردها الطبيعية وفقا لمصلحة التنمية الوطنية فيها يعد منافيا لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة ومعوقا لتنمية التعاون الدولي وصيانة السلام.
وبصدور القرار رقم 3171 في 17 كانون الأول (ديسمبر) 1973 وضعت الجمعية العامة المبادئ الأساسية لنظرية حقوق الدولة وواجباتها في مجال استغلال ثرواتها الطبيعية، فبعد أن أكد القرار المذكور السيادة الدائمة للدول على ثرواتها الطبيعية وعدم قابلية هذه الحقوق للتنازل، نص على التزام الدول بأن تمتنع في معاملاتها الدولية عن اتخاذ أية إجراءات يكون من شأنها إجهاض حق الدول الأخرى في مباشرة استغلال ثرواتها الطبيعية، كما حث الدول الأخرى على تنسيق سياساتها الاقتصادية من أجل تحقيق المباشرة الكاملة للسيادة الدائمة على ثرواتها. وقد قنن ذلك أخيرا في ميثاق الحقوق والواجبات الاقتصادية بمقتضى قرار الجمعية العامة رقم 3281 لسنة 1975، الذي نص على حق الدولة في مباشرة سيادتها الدائمة على ثرواتها كأحد الحقوق الاقتصادية التي تتمتع بها الدول.
ويرى فقهاء القانون الدولي أن هذه القرارات لا تنشئ حقا جديدا للدول، بل تقرر وتؤكد حق سيادة الدول على ما يوجد في إقليمها من موارد وثروات طبيعية وتحديد ضوابط ممارسة الدول سيادتها على تلك الثروات في حالة استعانتها بالخبرة ورأس المال الأجنبي لاستغلال تلك الثروات بحيث لا يؤدي التأميم أو نزع الملكية الأجنبية الخاصة إلى حرمان صاحبها من التعويض العادل.
ويتضح من كل ما سبق أن لكل دولة الحق في مباشرة سيادتها الدائمة على ثرواتها ومواردها الطبيعية واستغلالها على النحو الذي تراه محققا لخير شعبها ورفاهيته، وأنه لا يجوز المشاركة في استثمارها إلا طبقا للقواعد التي تحددها هذه الدول والشعوب وبعد رضائها، وأن هذا الحق غير قابل للتنازل أو التقادم. بيد أنه في أعقاب فرض حظر تصدير النفط العربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وهولندا بسبب موقفهما المساند لإسرائيل عسكريا واقتصاديا وسياسيا خلال حرب أكتوبر 1973 (رمضان 1393هـ) وما صاحب ذلك من ارتفاع أسعار النفط ارتفاعات كبيرة متوالية وانفراد دول منظمة الأقطار المصدرة للبترول (أوبك) بقرار تسعير النفط ظهرت نظرية غربية تسمى (نظرية السيادة المحدودة)، ومؤدى هذه النظرية أن ثروات البلدان النامية مفيدة للجنس البشري كله وتبعا فإنه ينبغي أن تكون هذه الثروات تراثا مشتركا للإنسانية ومن ثم فإن الدول النامية لا تملك على ثرواتها سوى (الحراسة) وليس للحارس سوى حق نسبي هو إدارة تلك الثروات الموجودة في إقليمه لحساب الإنسانية. وقد ظهرت هذه النظرية بشكل واضح خلال مناقشات الدورة الاستثنائية السادسة للجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، حيث احتج ممثل بريطانيا بها بشكل سافر وزعم أن الدول المنتجة لا تملك على ثرواتها سوى حق (الحراسة) وليس للحارس سوى حق نسبي هو إدارة تلك الثروات. فالهدف من هذه النظرية هو جعل الدول النامية التي يوجد في إقليمها ثروات طبيعية كالنفط والغاز مجرد حارس لهذه الثروات لحساب الغير المسمى لفظا (الإنسانية)، والمقصود به واقعا (الدول الصناعية الكبرى).
ولقد كانت تلك النظرية محل نقد واستنكار شديدين من قبل رجال السياسة والقانون والفكر في الدول النامية، وأشير في هذا الصدد إلى رأي الدكتور محمد بجاوي، القاضي الجزائري السابق في محكمة العدل الدولية، الوارد في كتابه (من أجل نظام اقتصادي دولي جديد)، حيث قال: (لقد أصبح الجميع يقول اليوم فجأة إن ثروات البلدان النامية مفيدة للجنس البشري كله، ثرواتها وحدها من دون ثروات البلدان الصناعية). وأضاف (إن البلدان الصناعية لجأت إلى مفهوم "التراث المشترك"، لأنها تريد فقط أن تقتسم مع بلدان العالم الثالث ما تملكه من الموارد ولا تريد إطلاقا أن تقتسم ازدهارها مع البلدان المتأخرة).. واستنكر الرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين هذه النظرية في خطابه الذي ألقاه في افتتاح مؤتمر القمة الأول لمنظمة (أوبك)، الذي انعقد في الجزائر سنة 1975، وأوضح أنها ليست إلا حجة لتبرير العدوان وإلغاء حق الشعوب على ممتلكاتها التي استرجعتها بالعمل والكفاح والتضحيات. وصرح الأستاذ أحمد زكي يماني وزير البترول والثروة المعدنية آنذاك (لن تفكر الدول المصدرة للبترول في أية اقتراحات تهدف إلى فرض الوصاية عليها من أجل تحديد أسعار بترولها)، كما أكد جامسيد اموزيغار وزير النفط الإيراني آنذاك (إن الأمم المنتجة للمواد الخام – ومصدري النفط كرواد أوائل – قد بلغت سن الرشد، حيث إنها قادرة على الدفاع عن حقوقها في السيادة من الناحية السياسية ومجهزة لمتابعة طموحاتها الوطنية من الناحية الاقتصادية).
وقال أحد الكتاب الغربيين، وهو الفريد غروسير، (لقد كان أولى بنا نحن الغربيين أن نهتم بتصحيح التوزيع غير العادل لثروات هذه الأرض عندما كنا نحن المستفيدين الرئيسيين منها).
هذه بعض الملامح التاريخية والقانونية السريعة لمسيرة الوطنية النفطية. وقد أحببت التذكير بها كنقطة انطلاق للتعليق بإيجاز على خبر ذي صلة، إذ تداولت بعض وسائل الإعلام خبرا مفاده أنه خلال اجتماع وزراء الطاقة في مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى الذي انعقد في العاصمة الإيطالية (روما) في أيار (مايو) الماضي، اقترح السنيور (باولو سكاروني) رئيس مجموعة غيني الإيطالية التي تعمل في مجال النفط، إنشاء هيئة دولية بهدف ضمان استقرار أسعار النفط الخام وتعويض الدول المنتجة عند انخفاضه بشكل كبير، وقال رئيس هذه المجموعة إنه من أجل استقرار الأسعار فإننا نقترح إنشاء هيئة عالمية تجمع الدول المستهلكة والمنتجة، وأن تقوم هذه الهيئة بتأسيس صندوق للاستقرار يضمن الدخل الأدنى للدول المنتجة عندما تنخفض الأسعار بصورة كبيرة، كما تقوم الهيئة بتنسيق إدارة احتياطيات وإنتاج البترول، بحيث يمكن توجيهها لمواجهة هبوط مفاجئ في الطلب على المستوى العالمي. وزعم السنيور المذكور أن الفكرة لاقت اهتماما من قبل وزراء مجموعة الثمانية, إضافة إلى دول منظمة أوبك التي قدم لها الاقتراح أيضا في آذار (مارس) الماضي.
وفي تقديري أن هذه الفكرة تتسم بالخبث والمكر، أنها تهدف إلى بعث (نظرية السيادة المحدودة) من مرقدها، في هيكل جديد، فتطبيقها سيؤدي حتما إلى جعل خطط وسياسات إنتاج النفط واحتياطياته في الدول المصدرة للنفط تحت سيطرة وإدارة منظمة دولية تهيمن عليها الدول الصناعية الرئيسية المستوردة للنفط، ومن ثم إنهاء دور منظمة أوبك والقضاء عليها قضاء مبرما، وهو هدف طالما سعت إليه في الماضي بعض الدول الصناعية، وأخفقت بفضل من الله في تحقيقه. ويبدو أن النزعة الاستعمارية لدى بعض الأوساط الغربية تؤزهم بين الحين والآخر أزاً من أجل محاولة استعادة السيطرة على الثروات النفطية للدول المنتجة. ونسأل الله تعالى أن يحبط دائما كيدهم ومسعاهم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي