عصر النانو أم عصر المليــار

ثمة علاقة رياضية عجيبة بين النانو Nano كوحدة قياس متناهية الصغر والمليارMilliard كوحدة قياس متناهية الكبر وقد تسمى أحياناً البليون Billion وهي وحدة تعادل ألف مليون، كما هو معروف فيما يعادل النانو من الناحية الرياضية جزء من ألف مليونن ما يعني ببساطة أن مليار نانومتر كمثال تعادل مترا واحدا فقط .
بداية نشير إلى أن العقود الخمسة الماضية شهدت تطوراً مذهلاً فيما يسمى علوم النانو Nano Sciences وذلك بعد تجارب جوردن مور Gordon Moore عن الترانزستور عام 1959، وما أعقب ذلك من ظهور العديد من تقنيات النانو Nano - technology على الساحة مع بداية العقد التاسع من القرن الماضي والتوسع في تطبيقاتها في جميع المجالات الطبية والصناعية والاتصالات وغيرها.. ففي المجال الطبي Nano Medicine تمكن العلماء من تطوير جزئيات نانوية لأدوية تعمل على مواجهة الخلايا المريضة داخل الجسم وتعمل بدرجة كبيرة على تقليل مخاطر المرض لتجنبها للخلايا السليمة . كما أدى التكامل بين العلوم الحيوية والعلوم الطبية في مجال أبحاث النانو إلى تطوير أساليب تشخيص المرض والعلاج واستخلاص سوائل لإذابة الأدوية وتعمل على الحد من التأثيرات الجانبية للدواء، بل وتقلل من تكلفة الإنتاج . ويخطط العلماء مستقبلاً لتطوير علم النانو الطبي من خلال استخدام ما يسمى الربوت النانو المبرمج Programmed Nano Robot.
أما فيما يتعلق بتطبيقات تقنيات النانو في الأنشطة الصناعية فهي متنوعة من خلال استخدام المواد النانوية أو المحفزات الكيمائية المشتقة منها، كما تضيف فلاتر النانو المتناهية الصغر على هيئة أغشية Nano – membrane مزايا عديدة لتنقية الهواء ورفع معدل جودتها وتستخدم أيضاً في الحصول على مياه محلاة من مياه شديدة الملوحة أو شبه مالحة عن طريق حجز الأملاح، ما يعرف بعملية التناضح العكسي. وكذلك في معالجة المياه المعاد تدويرها من الصرف الصحي والاستخدامات البلدية. أما في مجال الصناعات الغذائية، فإن تقنيات النانو تلعب دوراً في الإنتاج والمعالجة والتعبئة الآمنة للمنتجات الغذائية المحفوظة من خلال وضع وسائط نانوية كغشاء للتغطية وهي بذلك تسهم في الحد من إمرار الغازات غير المرغوبة وتحسين مقاومة الأغذية للحرارة والعوامل الميكانيكية الأخرى والحصول على الطعم المقبول ، وتجري حالياً أبحاث متقدمة لاستخدام تقنيات النانو كوسيلة للحد من التغييرات الحيوية / الكيمائية السلبية وزيادة المنافع الصحية للغذاء . كما تعد صناعة النسيج أيضاً من الصناعات المستهدفة حيث يمكن باستخدام ألياف النانو Nano – Fibers إنتاج نوعية خاصة من الملابس المقاومة للمياه والبقع ولا تتجعد، وبالتالي يمكن غسلها بسهولة تحت درجة حرارة منخفضة.
وتؤكد النظرة المستقبلية أن من المتعذر تجنب استخدام تقنيات النانو في الصناعات الثقيلة، حيث تتيح هذه التقنيات إمكانية استخدام مواد نانوية خفيفة وقوية لإنتاج مركبات سريعة وأكثر أمناً تكون فيها محركات الاحتراق أكثر مقاومة للحرارة والاحتكاك ، وهناك مجال واسع أيضاً لاستخدامها في سفن الفضاء، حيث يكون الوزن هو العامل المحدد لتقليل حجم المعدات، وبالتالي تقليل استهلاك الوقود اللازم لإطلاقها ، كما تُصنَع من المواد النانوية أحزمة برقية للمصاعد الفضائية تقلل من كمية الوقود المطلوبة لصاروخ الإطلاق، وبالتالي تكاليف الوصول إلى المدار خلال الرحلة الفضائية .
وتتنوع تطبيقات النانو تكنولوجي لتشمل مستحضرات التجميل ، وعالم البصريات Nano – Optics وإنتاج بطاريات رخيصة ذات طاقة عالية ويمكن إعادة شحنها، وكذلك المجسات الكيماوية Sensors. وهناك تجارب لزيادة قدرة الأجهزة الإلكترونية التقليدية، سواء من خلال تطوير أشباه الموصلات أو المبصارات. ونشير إلى أنه في مجال الاتصالات والمعلومات أمكن تصميم ذاكرة إلكترونية مطورة من أنابيب النانو الكربونية Nano- Ram التي يمكن أن تكون مستقبلاً بديلاً للذاكرة الحالية Flash memory.
ولكن ماذا عن المليار .... ؟
كان الحديث عن المليار حتى منتصف القرن الماضي مقصوراً على علماء الفلك الذين يتعاملون مع الأجسام الكونية المتناهية الكبر من خلال قياس الأبعاد أو المسافة المدارية ؛ فقطر الشمس كمثال نحو 1.4 مليار متر بينما تبلغ المساحة المدارية من الشمس إلى أبعد الكواكب في المجموعة الشمسية (بلوتو) 5.9 مليار كيلومتر ... وفي المقابل كان (المليون) هو وحدة القياس السائدة والمستخدمة جميع القطاعات ذات الصلة بالعلوم التطبيقية أو الجوانب الاقتصادية. ولكن الصورة الحالية مغايرة تماماً فالتعامل مع المليار هو السمة الواضحة في جميع مناحي الحياة فهناك دول يزيد عدد سكانها على المليار نسمة ( الصين والهند ) واستهلاك المياه للأغراض الزراعية في العديد من الدول يتجاوز بمراحل رقم المليار (الهند كمثال 480 مليار متر مكعب سنوياً – الولايات المتحدة الأمريكية 240 مليار متر مكعب سنوياً – مصر 50 مليار متر مكعب سنويا) حتى الإنتاج الزراعي من أي منتج في دولة صغيرة قد يزيد على مليار طن .. ومع دخول المواد الهيدروكربونية لتدعيم مصادر الطاقة أصبح هناك اهتمام متزايد لقياس حجم الاحتياطي والإنتاج لهذه المواد كضرورة ملحة لتحديد المدة المقدرة لنضوبها، ومن ثم كانت وحدة القياس المعتمدة لاحتياطي النفط مليار برميل ولاحتياطي الغاز الطبيعي مليار قدم مكعبة (احتياطي الشرق الأوسط من النفط كمثال يزيد على 800 مليار برميل فيما يبلغ متوسط الإنتاج السنوي نحو 10 مليارات برميل).
أما فيما يتعلق بالجوانب الاقتصادية، فإن التقارير الحديثة الواردة من الإصدارات العالمية لعام 2006 تشير إلى مجموعة من النقاط التي تحتاج إلى وقفة:
الوقفة الأولى: أن الدخل القومي GNP للغالبية العظمى من دول المجموعة الدولية – 209 دولة – تجاوز المليار دولار سنوياً، وأن الاستثناء من هذه القاعدة يظهر في عدد محدود من الدول الإفريقية جنوب الصحراء حيث لم يتجاوز فيها الدخل القومي المليار دولار سنوياً ، منها بورندي (0.8 مليار دولار) – جامبيا (0.5 مليار دولار) – غينيا (0.3 مليار دولار) – ليبريا (0.5 مليار دولار) وفي المقابل، فإن هناك مجموعة أخرى من الدول الغنية تجاوز فيها الدخل الألف مليار دولار سنوياً يقف على رأسها الولايات المتحدة الأمريكية (13387 مليار دولار) ثم اليابان (4935 مليار دولار) وألمانيا (3033 مليار دولار) والصين (2621 مليار دولار) ويأتي بعد ذلك دول أوروبية متقدمة: المملكة المتحدة، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا.
الوقفة الثانية: أن الديون الخارجية External debts من دول العالم أصبحت تقاس بالمليار دولار في أكثر من 70 في المائة من دول العالم وفي زمن تعاني غالبية الدول المديونة أزمات شديدة تهدر أمنها المائي والغذائي وتعرضها لتداعيات تعوق استدامة تنميتها، نذكر منها من أمريكا اللاتينية؛ الأرجنتين (122 مليار دولار) والبرازيل (195 مليار دولار) ومن آسيا الصين (322 مليار دولار) والهند (107 مليارات دولار) وكازخستان (74 مليار دولار) وروسيا (251مليار دولار)، وفي أوروبا تركيا (207 مليارات دولار)، المجر (108 مليارات دولار) رومانيا (55 مليار دولار) ومن الدول العربية مصر (29 مليار دولار) ولبنان (24 مليار دولار) المغرب (18 مليار دولار) والسودان (19 مليار دولار) وتونس (18 مليار دولار) ... أما عن الدول الإفريقية، فإن الغالبية العظمى تعاني الديون الخارجية حتى الدول ذات الدخل المتوسط منها كمثال جنوب إفريقيا التي يصل فيها إجمالي الديون الخارجية 36 مليار دولار.
النقطة الثالثة: إن التعامل في مجال التجارة الخارجية يتم حالياً بمليارات الدولارات، سواء في مجال الاستيراد أو التصدير للسلع والخدمات ويستوي في ذلك جميع الدول غنيها وفقيرها .. والأمثلة على ذلك كثيرة. فبالنسبة للواردات تقدر نسبة واردات كندا من السلع والخدمات إلى الناتج المحلي الإجمالي بنحو 40 في المائة، وتصل في إسبانيا إلى نحو 30 في المائة فيما تبلغ 80 في المائة في بلجيكا، وتزداد هذه النسبة بصورة كبيرة في دول مثل هونج كونج لتصل إلى 142 في المائة وغيانا الاستوائية إلى 106 في المائة وفي دولة عربية بترولية (البحرين) إلى 65 في المائة أما في مصر ولبنان فقد تصل النسبة إلى 23 في المائة، 40 في المائة على التوالي. والأمر يختلف تماماً بالنسبة للصادرات فهي تزيد على نسبة الواردات، خاصة في الدول البترولية والدول الصناعية، حيث قدرت نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي في الإمارات العربية بما يزيد 70 في المائة وتبلغ في ألمانيا 40 في المائة كمثال.
وبعد هذه الرحلة الطويلة في عالم النانو وعالم المليار ونحن في نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وفي ظل الصراع غير المعلن بين العلماء المنكبُين على تجاربهم في المعامل لتطوير تقنيات النانو وتطويعها في المجالات الحياتية والاقتصادية كافة، والاقتصاديون في تعاملهم في أسواق المال والأعمال لزيادة فاعلية المليار كقوة محركة للاقتصاد العالمي – من حقنا أن نتساءل هل نحن في عصر النانو أم عصر المليار؟ ولكن السؤال الأخطر هل يلحق أبناؤنا في المستقبل القريب بعصر الفيمتو والتريليون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي