إنه خطاب الاعتذار
"لقد جئت للبحث عن بداية جديدة بين الولايات المتحدة والمسلمين حول العالم"، بهذه الكلمات خاطب الرئيس أوباما العالم المسلم من جامعة القاهرة، فجاء خطابه الذي انتظرناه طويلا ليضع النقاط على الحروف بشكل لا يقبل اللبس، فتناول الخطاب ست قضايا تشكل في مجملها رؤية الإدارة الجديدة والمقاربة الرئيسة لسياسة هذه الإدارة نحو العرب والمسلمين ونحو الشرق الأوسط،، وهي قضايا تهمنا جميعا, وبالتالي من الحري بنا كعرب ومسلمين قراءة الخطاب بعمق دون استعجال لكي نضع نصب أعيننا مسألة الاشتباك الإيجابي مع الآخر بشكل يضمن مصالحنا.
قبيل زيارة الرئيس أوباما إلى كل من السعودية ومصر، تلقى كثيرا من النصائح من قبل كثير من مراكز التفكير وبعض المستشارين للتركيز على الخطر الإيراني بدلا من قضية العرب والمسلمين الأولى, وهي القضية الفلسطينية. لكن هناك كثيرا من المؤشرات تفيد أن لقاءه مع خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز أثر في صياغته خطابه, إذ نجد كثيرا من المفردات السعودية, ولا سيّما المتعلقة بعلاقة المسلمين والولايات المتحدة. ولا غرابة في ذلك إذ أكد الرئيس أوباما في خطابه الموضوع الذي قاده الملك عبد الله, وهو حوار الأديان، وبالفعل وجه شكرا خاصا للسعودية والملك عبد الله بن عبد العزيز على دوره الريادي في التقريب وليس التفريق بين البشر.
الخطاب على أهميته بالنسبة إلى مختلف ملفات الصراع في المنطقة إلا أن اختيار السعودية يكشف عن أهداف أخرى للرئيس أوباما من زيارته، فالنفط يبقى أولا بالنسبة للاقتصاد الأمريكي الذي يستهلك سنويا ما يقارب 700 مليار دولار تنفق على الطاقة, وهو تحد داخلي له أهمية كبيرة لدى الرئيس والإدارة الأمريكية, وهو سبب في تغيير أمريكا سياساتها، ولهذا السبب تعطي إدارة أوباما, شأنها شأن من سبقها, الأهمية القصوى للسعودية, لأن تحركات السعودية الاقتصادية تسهم, إن أرادت, في حل المشكلات الاقتصادية التي تعانيها أمريكا وتسهم سلبا إن لم تتعاط مع الأمر بموضوعية.
في بداية خطابه ركز الرئيس أوباما على أن هناك توترا بين الولايات المتحدة والعالم المسلم, وهو توتر في حاجة إلى التعاون من أجل التوصل إلى حله بشكل يضمن الاحترام المتبادل, لأن هناك أيضا مصالح كثيرة تجمع العالم المسلم وأمريكا. ولكي يعطي الرئيس أوباما خطابه القوة اللازمة والصدقية اقتبس من القرآن الكريم كثيرا من الآيات التي تبين القيمة الإنسانية للمسلمين وحضارتهم وركز في بداية الخطاب على القرون التي خلت وميزت علاقة المسلمين مع الغرب, وهي علاقة استندت في كثير من مفاصلها إلى التعاون والتعايش. وفي الحديث عن تاريخ بلده يكشف, على سبيل المثال, أن أول دولة اعترفت باستقلال الولايات المتحدة كانت المغرب.
لكنه يبين فهما عميقا لديناميكيات العنف في الإقليم عندما يقول إنه طالما سمحنا بأن تسود الخلافات في علاقة أمريكا بالعالم المسلم فإن من شأن ذلك أن يمكّن أولئك الذين يزرعون الكراهية بدلا من السلام. وإن دل هذا على شيء فإنه يدل على قراءة دقيقة لما يمكن أن تقوم به أمريكا من أجل صياغة العلاقات الثنائية بشكل يضمن الأمن والازدهار والاستقرار للجميع, لأن العلاقة بين أمريكا والإسلام ليست علاقة إقصائية وإنما تسمح بالتعايش. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس مدرك لظاهرة الإسلامو- فوبيا التي توجد في كثير من بلدان الغرب وتعهد بأنه سيقوم بمكافحة رسم الصور النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين لأن ذلك مقدمة لخلق المناخ الصحي للاحترام المتبادل.
القضية الأولى التي من الضروري مواجهتها، حسب الرئيس أوباما، هي التطرف والعنف، ومن الملاحظ أنه لم يستخدم تعبير "الإرهاب" حتى لا يعطي انطباعا بأنه يساوي بين الإسلام والإرهاب كما يحاول بعض الجهات في الغرب أن تعززه، فالولايات المتحدة ليست في حرب مع الإسلام. وهنا يقدم الرئيس رؤية أين هو التطرف والعنف ويشير إلى أفغانستان كمسرح رئيسي لتفريخ العنف والتطرف، ولا يتردد الرئيس أوباما في القول إن العدو الأول هو القاعدة وليس الإسلام ولا غالبية المسلمين. وهذه رسالة مهمة بعد سنوات من الغطرسة التي مارستها إدارة بوش. وفي معرض حديثه عن ضرورة تكاتف الجهود لمكافحة التطرف أينما كان تحدث الرئيس عن الخطأ الذي وقعت فيه أمريكا في العراق وعن نية إدارته ترك العراق حرا مستقلا.
القضية الثانية التي تشكل نقطة توتر بين المسلمين وأمريكا هي استمرار الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وأشار الرئيس في معرض حديثه عن عملية السلام إلى أنه سيكون هناك استثمار رئاسي في العملية وتعهد بأن يساعد كل الأطراف على التوصل إلى حل دائم. وهنا تجب الإشارة إلى أن الرئيس قدم قراءة متوازنة بشكل كبير، ففي وقت عبر فيه عن تعاطفه مع التاريخ اليهودي في أوروبا لم ينس أن يعبر عن تعاطفه مع حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم على ترابهم الوطني وحقهم في إقامة دولة فلسطينية مستقلة. وحتى قبل أن يلقي خطابه، أظهر الرئيس كل الشجاعة في توضيح موقف أمريكا بشأن الاستيطان, وذكر في خطابه أن استمرار النشاط الاستيطاني أمر غير شرعي، ولعل هذا الموقف هو الأكثر جرأة في تاريخ الولايات المتحدة في التعامل مع الاستيطان الإسرائيلي. وما الحديث عن مبادرة السلام العربية وضرورة أن يلعب العرب الدور المتوخى منهم في مساعدة الطرف الفلسطيني إلا تعبيرا عن فهم أوباما أهمية الدور العربي لتحقيق السلام. على أن الرئيس في انحيازه للسلام أكد أن ذلك في مصلحة الولايات المتحدة، بمعنى أن للرئيس قراءة لمصالح الولايات المتحدة بمعزل عن قراءة القوى المؤيدة لإسرائيل في واشنطن, وهذا تطور إيجابي في الموقف الأمريكي.
القضية الثالثة تتعلق بالأسلحة النووية, وهنا الحديث عن إيران. وبين كيف أن العلاقات الإيرانية ـ الأمريكية مرت بتقلبات إلا أنه يبعث برسالة تطلب من الطرفين ألا يبقيا أسيري الماضي وأن ينظرا إلى المستقبل. لكنه وهو يقترح الحوار مع إيران حول كل القضايا يبين أنه ملتزم باستراتيجية المنع التي بموجبها لن يسمح لإيران بأن تطور أسلحة نووية حتى لو تطلب الأمر توظيف الوسائل العسكرية, وأنه مع أن يكون لإيران كما هو الأمر لسائر الأمم الحق في الحصول على الطاقة النووية السلمية. ربما علينا أن نضيف هنا أن الموقف من إيران فيه بعد إسرائيلي لأن استمرار إيران في عملية التخصيب تشكل خطرا وجوديا حسب الموقف الإسرائيلي.
النقطة الرابعة تتعلق بموضوع الديمقراطية، وهنا وعلى الرغم من تفضيله الديمقراطية فإنه يصر على أنه لن يفرض أي نظام حكومي على أي أمة، وهو أمر حاولت إدارة بوش عمله وفشل, لكنه لا يتجاهل الموضوع كليا ويبين أن موقفه حول عدم فرض أي نوع من الحكم على أي شعب لا يقلل من التزاماته للحكومات التي تعبر عن إرادة شعوبها. وفي سياق حديثه عن الديمقراطية يركز على المثل والأسس مثل احترام حكم القانون وحرية التعبير, ولا يعتقد أن الانتخابات وحدها تشكل ديمقراطية حقيقية.
القضية الخامسة تتعلق بحرية الأديان واحترام حقوق الأقليات, فالدين الإسلامي جزء من التسامح، كما يقول أوباما، وهنا يشير إلى تجربته الشخصية عندما كان طفلا في إندونيسيا (البلد المسلم) التي يمارس فيها المسيحيون عباداتهم وطقوسهم بكامل حريتهم. والتسامح الديني المتأصل في الدين الإسلامي الحنيف هو الروح التي نحتاج إليها اليوم أكثر من أي وقت مضى ـ على حد تعبير أوباما. ونادى بضرورة أن يكون الغرب متسامحا مع الإسلام, وهنا أشار إلى حرية المرأة المسلمة في ارتداء الحجاب, وربما في ذلك إشارة إلى بعض الدول الغربية التي تحرم على الطالبة المسلمة ارتداء الحجاب ودخول المدارس. وهذا يحتاج إلى حوارات بين الأديان, وهو ما يتبناه العاهل السعودي.
التنمية الاقتصادية كان المحور الأخير لخطابه, وهنا يشير إلى ضرورة التوازن بين التنمية والحفاظ على التقاليد لأنه ليس المطلوب في سبيل تحقيق التنمية الاقتصادية أن يتأمرك العالم المسلم. وهنا أشار أوباما إلى أهمية التعليم وإلى عدد من المبادرات والصناديق المنوي إقامتها والتي تركز على التعليم والاشتباك بين المسلمين وأمريكا في سياق استراتيجيته للتقريب بين الولايات المتحدة والمسلمين.
بالمجمل كان خطابا مهما وبليغا وينم عن فهم لنا وتعاطف مع قضايانا، لكن ومع كل ذلك لا بد أن نشير إلى أن الرئيس أوباما لم يضع الخطط اللازمة لترجمة ما قاله إلى سياسات. صحيح أن الرئيس كان متعاطفا لكن أيضا كل ما قاله هو كلام في كلام وإذا لم يترجم جزء كبير منه إلى سياسات عملية وإلى خطوات ملموسة فإن سقف التوقعات المرتفع سيتحول إلى مصدر إحباط. بمعنى أن كثيرا من العرب والمسلمين سيتحمس ولكن على أوباما أن يستبطن أن الأهمية القصوى هي القضية الفلسطينية، فلا يمكن للعالمين العربي والمسلم أن يأخذا إدارة أوباما محمل الجد إن لم يكن هناك تحرك سريع وملموس لتمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم على ترابهم الوطني. ولا يمكن للولايات المتحدة أن تنجح في ترجمة رؤيتها دون مساعدة كبيرة من السعودية التي تمتلك القوة الاقتصادية والسياسية والمكانة الدولية اللازمة علاوة على سموها على متطلبات السياسة اليومية والتركيز على قضايا إنسانية تعالج جذور الخلافات بين البشر, والتي أشار إليها أوباما بشكل واضح.
بالمحصلة أوباما اختار السعودية أولا بسبب قوتها النفطية وحضورها الاقتصادي العالمي المؤثر, واختار السعودية لاطلاعها على السياسة الأمريكية الجديدة بعد أن كانت السياسة السابقة محل نقدها وعدم ارتياحها لها، واختارتها لأن نجاح أي هدف سياسي في المنطقة يحتاج إلى موافقة ومباركة سعودية, كما أنه اختار الاعتذار للإسلام والمسلمين إدراكا منه لما طرحه السعوديون مرارا من أن الإدارة الماضية استغلت الإسلام والحرب على الإرهاب لفرض سياساتها الخارجية وبما يسيء إلى الدول الصديقة والمعتدلة في المنطقة.