كثُرَ الحديث عن أسعار الوقود .. فما المقصود؟وما الضوابط والحدود؟
تابعنا جميعاً خلال الأيام الماضية تصاعد الرؤى والكتابات التي تحذر من سلبيات وتبعات استمرار أسعار الوقود في السوق الوطني دون المستويات العالمية والإقليمية. نعم.. أسعار الوقود في المملكة هي الأدنى، ومن المنطقي أن تكون الأدنى، نظراً لأن النفط هو السلعة التي تنتجها المملكة وتجسد ميزتها النسبية. فمن المنطقي أن تكون السلعة المميزة لكل بلد هي الأدنى سعراً، فالأرز في مصر مثلاً أسعاره منخفضة، وربما الأدنى عالمياً، لأن مصر لديها ميزة نسبية في إنتاجه، وينطبق الحكم نفسه حتى بالنسبة للبشر (عرض العمل وسعره)، والعكس صحيح.
ولكن لا يعني قولنا أعلاه أن نترك الحبل على الغارب دون ضوابط...وإلا لفتحنا المجال لإهدار تلك الموارد النادرة وغير المتجددة. لا يستطيع أحد أن ينكر أن هناك إهداراً كبيراً، وما يترتب على هذا الإهدار من تبعات بيئية واقتصادية، هذا ناهيك عن إهدار حقوق الأجيال المقبلة في تلك الموارد، وإضعاف فرص استدامة عملية التنمية في المملكة. ولهذا وكما يقال: خير الأمور الوسط. فمن المطلوب الحفاظ على سعر منخفض للوقود، بما يعكس الميزات النسبية للمملكة، وفي الوقت نفسه ضمان عدم الإهدار، كيف يتحقق ذلك؟
في حقيقة الأمر، علينا ونحن نتحدث عن أسعار الوقود وضرورات ومبررات مراجعتها، أن نميز بين ثلاثة قطاعات رئيسية، بحيث تختلف آلية وأسلوب التعامل من قطاع إلى آخر، وذلك على النحو التالي:
أولاً: بالنسبة للقطاع الصناعي وقطاعات الإنتاج: من المعروف أن أسعار الوقود والطاقة تشكل إحدى الميزات والمحفزات التي يوفرها السوق السعودي لكل من المستثمر الوطني والأجنبي. كما أن أسعار الوقود المنخفضة نسبياً، تشكل تعويضاً عن العناصر والعوامل الأخرى، التي لا تزال تعوق أو تضعف من فرص الاستثمار في السوق الوطني، كالاعتماد على العمالة الوافدة وقلة العمالة الماهرة. ولهذا، فإن أي توجه للتعامل مع أسعار الوقود والطاقة، يُفترض أن يراعي هذا الأمر، حتى لا نضعف من الميزة الكبرى التي يوفرها السوق الوطني للمستثمر في السوق الوطني، خاصة المستثمر الصناعي، وحتى نضمن استمرار مسيرة جذب الاستثمار بمعدلات تعكس إمكانات الاقتصاد السعودي.
كما أنه في حال إجراء رفع غير منظم لأسعار الوقود ستتأثر كثيراً الصادرات الصناعية الوطنية، حيث ستنعكس تلك الارتفاعات على أسعار المنتجات الوطنية في الأسواق العالمية بالارتفاع، وبالتالي ستضعف من قدراتها التنافسية. وفي هذا الإطار أيضاً، ينبغي أن يكون هناك تمييز - وهو تمييز مبرر تعرفه مختلف الدول - بين أسعار الوقود والطاقة المقدمة للمشروعات العاملة في المناطق التقليدية، وتلك التي تعمل في المناطق النائية والمستهدفة بالتطوير والمدن الجديدة، حيث ينبغي أن تحظى المناطق الجديدة بمحفزات لجذب الاستثمار فيها، وفي مقدمة تلك المحفزات أسعار الوقود والطاقة والمياه... إلخ.
ثانياً: بالنسبة لقطاع النقل، وهو القطاع الذي تلتفت إليه الأنظار مباشرة فور الحديث عن أسعار الوقود، خاصة أن المملكة باتت تستورد كميات متصاعدة من البنزين، لتلبية الطلب المتنامي عليه. ولنا أن نتخيل الوضع بعد عامين أو خمسة أعوام.. مؤكد أن فاتورة الواردات ستتضاعف، كما سيتضاعف حجم الاستهلاك للإنتاج المحلي من المواد البترولية المكررة، وما لذلك من تبعات بالغة الخطورة على عائدات المملكة من النفط والغاز، ومن ثم الموازنة العامة والدين العام... إلخ. ولهذا لا بد من وضع تنظيم خاص لاستهلاك الوقود في هذا القطاع، بما يضمن تلبية الحد الأدنى لمتطلبات الأسرة السعودية من الوقود بالأسعار المدعومة، على أن تطبق تسعيرة مختلفة للشرائح الأعلى من الاستهلاك، وبهذه الطريقة سيفكر المستهلك (المهدِر) كثيراً في كل ريال ينفقه، وبالتالي نضمن الحد من الاستهلاك. وأمامنا تجارب عالمية عديدة، اعتمدت نظام البطاقات - وهذا ليس عيباً إذا أمعنا النظر - وغيرها، حيث يمكن الاستفادة منها، بما يحقق الهدف. فالمهم هو ألا تتساوى شرائح الاستهلاك المختلفة بتنظيم واحد، وبالتالي نكون قد ضمنا تحقيق العدالة، وفي الوقت نفسه حققنا الهدف، وهو الحد من إهدار هذا المورد النادر وتخفيف الأعباء عن الموازنة العامة.
إلا أن وضع تنظيم يحدد شرائح لاستهلاك الوقود لن يكون كافياً ما لم يدعمه توجه يعلي ويطور من ثقافة الاستهلاك. فلا يمكن أن نتجاهل التوجه الجامح نحو اقتناء أكثر من سيارة لكل أسرة، بل ولكل فرد من أفرادها، في وقت يمكننا توفير وسائل نقل عامة راقية (كالمترو كما هو الحال في لندن والمدن العالمية الكبرى)، وبالتالي نضمن خفض الاستهلاك وفي الوقت نفسه الازدحام المروري والتلوث البيئي وتكلفة تطوير وترميم الطرق... إلخ. إلا أن المواطن لن يقبل على تلك الوسائل، ما لم نغذ فيه ثقافات جديدة، تنمي فيه روح المسؤولية الجماعية والإيثار، وفي الوقت نفسه تضمن للبلاد استدامة عملية التنمية. فلنا أن نتخيل الأوضاع بعد خمسة أو عشرة أو عشرين عاماً!! وفي الوقت نفسه ينبغي التوجيه نحو استخدام العلامات الأقل استهلاكاً للوقود أو تلويثاً للبيئة. كل هذا يتطلب تضافر جهود مؤسسات عدة في مقدمتها وزارة النقل والبترول والتعليم والشؤون الاجتماعية والإعلام.
ثالثاً: بالنسبة للقطاع السكني: لا يمكن لأحد أن ينكر طبيعة المناخ الجغرافي للمملكة، الذي يتطلب استهلاكاً عالياً للطاقة صيفاً أو شتاءً، ولكن مؤشرات استهلاك الفرد من الطاقة (في المساكن) هي الأعلى وفي تصاعد مستمر، وهي مؤشرات تعزى إلى عديد من العوامل، وليس فقط انخفاض أسعار الوقود، ولكن أيضاً نمط المعيشة القائم، وزيادة الميل نحو العيش في وحدات سكنية أرحب، أو في شكل فيلا... إلخ. لا أحد يطلب التضييق على الناس، أو الحد من مستوى رفاهيتهم، ولكن في الوقت نفسه، وكما ذكرنا بالنسبة لحالة المركبات، لا بد أن تكون هناك حدود دنيا وحدود قصوى؛ حدود دنيا تراعي الفئات الاجتماعية محدودة ومنخفضة ومتوسطة الدخل، وهي التي لا يتعدى استهلاكها مستوى معينا، وفئات اجتماعية مرتفعة الدخل، وهي التي يتعدى استهلاكها ذلك المستوى الذي تحدده وزارة الكهرباء. فشركات إنتاج الكهرباء وتحلية المياه تستهلك سنوياً مئات الملايين من براميل النفط والغاز، لتلبية احتياجات المساكن وغيرها من الكهرباء والمياه، واستهلاكها يشهد تصاعداً مخيفاً، ولو أعملنا نظرية تكلفة الفرصة البديلة، لو جدنا أن المملكة تخسر مئات المليارات نتيجة إهدار وحرق تلك الموارد النادرة لتغذية تلك المحطات.
المطلوب، هو وضع ضوابط تراعي مختلف الشرائح، وفي الوقت نفسه تحد من إهدار تلك الموارد النادرة، ولكن ينبغي أيضاً تعزيز ثقافة الاستهلاك من خلال مختلف الوسائل، وفي مقدمتها الحملات الإعلامية المكثفة، والبرامج والمقررات التعليمية، بما يضمن تنشئة أجيال تدرك حيوية تلك الموارد لرفاهية الأجيال الحالية والمستقبلية.
أما فيما يختص بالاستراتيجية بعيدة المدى، فمن المطلوب أن يكون هناك تحرك جاد وملموس نحو توظيف التقنيات الحديثة في مجال إنتاج الطاقة واستخداماتها على الأرض السعودية. فالطاقة المولدة من المصادر الشمسية، باتت وسيلة شائعة التطبيق في مختلف الدول وباتت أكثر نضجاً، ولهذا أولى بها أن تطبق في المملكة لاعتبارين رئيسيين: الأول، طبيعة الجو الحار والشمس على مدار العام، أي أن المصدر موجود، والثاني، وفرة الموارد المالية لتمويل قيام تلك المشروعات، ويمكن حفز القطاع الخاص (الوطني والأجنبي) للاستثمار في هذه الصناعات وتقديم مختلف حزم التشجيع وأمامنا التجارب العالمية الناجحة لنستفيد منها.
أيضاً، بالنسبة للمصدر النووي، فرنسا تغطي نحو 80 في المائة من احتياجاتها من الطاقة الكهربائية من المصادر النووية، بل صدرت الكهرباء المولدة نووياً لدول الاتحاد الأوروبي بقيمة تعدت خمسة مليارات دولار في عام 2007م. خليجياً، تحركت الإمارات تحركات جدية نحو توظيف هذه التقنية، بل تعهدت الشركة الأجنبية ببدء تشغيل أول محطة للطاقة النووية في الإمارات عام 2015م. أولى بالمملكة - بما لها من وزن - وبما لديها من إمكانات مادية وبشرية، وفي ضوء مؤشرات الاستهلاك المتصاعدة، أن تتحرك تحركات أكثر جدية في هذا الاتجاه. مؤكد أن هناك جهودا تبذل ولا يمكن إنكارها، ولكن ينبغي الإسراع فيها، بالتعاون في الأساس بين وزارتي الكهرباء والتعليم العالي، ومع الوكالة الدولية للطاقة النووية. ففي حال توظيف تلك التقنيات - التي لا يمكن أن تشكل بديلاً كاملاً للنفط أو الغاز - يمكن أن نضمن توفير جانب كبير من مواردنا النادرة، وأن نضمن إطالة أمدها، وتوجيهها نحو استثمارات ذات قيمة مضافة أكبر، وليس حرقها لتوليد الطاقة.
لا يمكن لأحد أن ينكر أهمية قطاع الطاقة، فمن خلاله تدب الحياة في باقي القطاعات. وبحسب قول ريتشارد سمولي - الحائز على جائزة نوبل في الكيمياء والفيزياء - "إن أهم عشر مشكلات تواجه العالم هي؛ الطاقة، المياه، الغذاء، البيئة، الفقر، الإرهاب والحروب، الأمراض، التعليم، الديمقراطية والسكان، إلا أن توافر ما يكفي من الطاقة يُمَكِن من إنتاج المياه النظيفة، وإذا توافر الماء النظيف، يصبح إنتاج الغذاء أسهل بكثير، وستحل مشكلات الفقر والبيئة لأن الطاقة ترفع مستويات المعيشة، وهذه بدورها تمكننا من إدارة البيئة بطريقة أفضل". وعليه ينبغي أن تحظى الطاقة ومصادرها باستراتيجية وطنية بعيدة المدى. والله الموفق.