التناقضات الاجتماعية التي يراها الغرب في حياتنا (2 من 2)
عودة إلى تلك الحوارات التي كانت بين الصحافية الألمانية شارلوتة فيدمان التي تمثل نموذجا لكيف ينظر هذا الغرب إلى عالمنا الثالث الذي يختلف معه عقديا واجتماعيا, وبين الأستاذة الجامعية الباكستانية غزالة عرفان التي درست الفلسفة في الغرب, وبالطبع تظل ابنة هذا العالم الثالث. سنجد أن الألمانية ارتفعت درجة انفعالها من الرد المنصف الذي وضحت فيه دور الادعاءات الكاذبة لدى الغرب لما يطلقون عليه المبادئ الإنسانية التي يروجون لها ولكن شركاتهم في الواقع هي التي تكرس التناقضات الاقتصادية وتسهم في اتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء في هذه الدول, ومنها باكستان.
فنجدها تبرر بلغة تحاول أن تكون مقنعة هذه التجاوزات فتقول: (لقد دفعتني رسالتك الأخيرة إلى التفكر كما جعلتني أشعر بشيء من الحيرة. إنه لا يسعني إلا أن أشاطرك استياءك من جراء علاقات الاستغلال السائدة عالميا، لكنني من ناحية أخرى أنتمي شئتُ ذلك أم أبيت إلى هذا الغرب الذي تصنفينه كداعية للمبادئ الإنسانية يفتقر إلى المصداقية. أود إذن أن أضيف أولا هذه المعاينة إلى رؤيتك: في أنحاء عديدة من العالم يتزايد التصدي إلى المواد الخاضعة إلى المعالجة الجينيتيقية، وذلك من طرف المناهضين للعولمة هنا في الغرب وكذلك من قبل منتجين من بلدان ما يسمى العالم الثالث. لكن هذه الحركات لا تحظى بما تستحق من الاهتمام، لأن الانفصام الحاصل في الوعي العام بحكم الاختلافات الدينية والثقافية هو الذي يسيطر على كل المشاغل الأخرى حاليا، وذلك في هذا الجزء الذي أنتمي إليه من العالم كما في ذلك الذي تنتمين إليه أنت. إن أيديولوجيات الحملات الصليبية والحرب المقدسة تعمينا عن مخاطر الموروث الجيني للذُرة).
**توقفت أنا هنا لانتقالها بالحوار من مستوى الإجحاف المادي لشركات العولمة الغربية التي تعيث فسادا في عالمنا الثالث بنهب الخيرات وتدمير الثروات, إلى مستوى الاختلافات الدينية! وكأنها تريد أن تحمل هذه الاختلافات نتيجة هذه السرقات المعممة بالعولمة التي أخيرا نجد أن هذا الغرب حصد نتيجة جشعها في انهيار مالي بسبب الربا الذي أكل الأخضر واليابس كما يقال وكيف وجدناهم هرعوا إلى عالمنا الثالث يطلبون النجدة من إيراداته النفطية التي يرون أننا لا نستحقها كما ذكر أحد أباطرتهم خلال حرب العراق عندما قال: جئنا لنصحح خطيئة الرب!! (تنزه الله ـ جل وعلا ـ عن هذا القول).
عودة إلى حوار شارلوتة مع غزالة وتعليقها عن وجودها في الصين لحضور مؤتمر عن الفلسفة بقولها: (في أية مسائل يتباحث فلاسفة من بلدان وديانات مختلفة يلتقون في مؤتمر فلسفي في الصين؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل لن تأتينا بالتأكيد عن طريق الأخبار التي تنقلها لنا وسائل الإعلام، إذ لا هم لهذه الأخيرة سوى في معدّلات الإنتاج، إضافة إلى أن أعمال التقتيل اليومية في العراق أكثر أهمية على أية حال. أما أن يلتقي أناس من خارج العواصم الغربية بصفة سلمية في مكان ما لتبادل الأفكار ووجهات النظر فذلك ما يبدو مثل واقعة قادمة من عالم مندثر، عالم من عصر ما قبل الحادي عشر من سبتمبر)!.
**أتوقف هنا مرة أخرى لنجد كيف تفكر هذه الذهنية الأوروبية في قضايا القتل والتدمير في العراق الذي كان منبع الحضارات وكان أكثر أمانا منه الآن. ترى شارلوتة الألمانية أن الحديث عن الفلسفة ونقل نتائج مؤتمراتها أهم من هذا الانهيار الإنساني في أرض العراق! هذه النظرة نجدها منتشرة في إعلام الغرب على وجه الخصوص فهم يقيمون الدنيا وتتحرك الوفود من الأمم المتحدة كي تنقذ جنديا صهيونيا تم اعتقاله, أو صحافية أمريكية اتهمت بالجاسوسية, أما أعداد الشهداء على أرض العراق أو أفغانستان أو قطاع غزة فتلك (أرقام ليست مهمة)!
وتعود شارلوتة لتوضح رأيها حول أحداث سبتمبر وأنها علامة تحول حِقبي كما يدّعي كثيرون في العالم الغربي. فتقول: (طرأ تغير جذري على نظرتنا هنا في الغرب إلى بقية العالم منذ ذلك الحين – غدت نظرتنا أضيق. فالعالم "في الخارج"، يعني فيما وراء الجزيرة الصغيرة لرفاهيتنا وأمننا الأوروبيين، يبدو لنا نهبا للفوضى، وخطيرا وعنيفا. ولا أحد بإمكانه أن يتصور أنه توجد هناك في ذلك "الخارج" سعادة وحب ومسرات عائلية وطموحات مهنية وخصومات عائلية؛ أي حياة عادية).
وتوضح أن ما اعترى العالم هو "شعور شامل بالقهر" تجاه الكيان الأمريكي المؤمن برسالته الكونية، ولكن أيضا بسبب الشك بخصوص ما إذا كانت القيم المدعوة بالقيم الغربية قادرة أصلا على معالجة مشكلات بقية العالم. ثم تصف لغزالة ما شاهدته في زيارتها إلى القاهرة وحواراتها مع أحد أصحاب المقاهي هناك وما تعتقد أنه وجهات نظر تجاه إنكار محرقة اليهود واستحالة وجود سلام مع إسرائيل! وكيف تجد أن جميع الفنادق الفاخرة خلال أشهر الصيف في القاهرة تكون محجوزة من طرف السائحين الخليجيين؛ وأنها بعد أمسية في أحدها هناك توصلت إلى قناعة بأن الانحطاط الذي ينسب عادة للغرب يعيشه الناس في المشرق بلا حساب أو تحفظ! وتحدثت عن ظاهرة – كما تقول - تزايد عدد النساء المحجبات في القاهرة. وأن المراقبين المصريين يتحدثون عن تأثيرات بلدان الخليج، تتجلى بطرق مختلفة لدى الأغنياء عما هي عليه لدى الفقراء: الأولون يشيدون في ضواحي القاهرة فيلاّت بيضاء باذخة، أما الآخرون فيجلبون من تجربة عملهم في الهجرة في بلدان الخليج نمط حياة متدينا يعبر عن نفسه بالأساس في المظهر الخارجي لزوجاتهم.
وتتساءل كأي غربية لا تفهم تأثير الدين في حياة الشعوب: (هل من باب الخطأ القول إن تأثير الإسلاميين يتغذى من التناقضات الاجتماعية داخل المجتمع الإسلامي ـ كذكرى متوقدة عن المكانة التي يوليها الإسلام إلى المساواة عن طريق مفهوم "السواسية"؟).
في هذه السطور من رسائل شارلوتة لغزالة نجد أن الاختلافات بيننا وبين هذا الغرب, بصفتنا مسلمين ولنا ثقافتنا المستمدة من هذا الدين السماوي, الذي لم نحافظ على قيامنا بالعمل بما فيه من تجليات تشريعية تحقق العدالة الحقيقية والتوازن في مجريات الحياة للجميع رجالا ونساء مسلمين وغير مسلمين كما كانت تعيش الدولة الإسلامية, لا تتوقف عند الرؤية لأفعال كل طرف بل تمتد إلى العمق التاريخي وما تحمله ثقافة هذا الغرب وأشارت إليه شارلوتة في حواراتها (الحروب الصليبية) فهم لم يمح من ذاكرتهم هذه الحروب التي يعودون إليها بأساليب مختلفة. ومنها هذا الهجوم على منظومتنا التشريعية واتهامها بالتناقضات لأن الواقع في مجتمعاتنا الإسلامية أخفق في تطبيقها ولأننا لم نكن أقوياء بهذه العقيدة كي نرتقي بها وترتقي مجتمعاتنا بالتالي. وسنظل في هذه الخانة من المراوحة إذا لم نفهم هذا التاريخ الغربي ونستوعب الدروس القائمة حاليا.
ولهذا أجد في رد غزالة لشارلوتة الذي توضح فيه الآتي شيئا من العقلانية فتقول غزالة: (سأكون آخر من يمكنه أن يحيّي صراعا بين الحضارات، أو يزكي نمذجة تقابل بين "نحن والآخرين". وبالمقدار نفسه من الاحتمال ستكون موافقتي على مقولة (ماك إنتاير). إن حوار الحضارات، وإن كان أمرا ضروريا، إلا أنه شيء مستحيل مع ذلك. إن الموقف الإنساني في نظري مسألة مشتركة بين البشرية جمعاء وليس حصرا على الأفق الغربي دون غيره. وأسهمت كل الثقافات بإضافاتها في السجل المتنوع للمعارف وكذلك في عمق وتعدد النشاطات التي تتعاطاها البشرية. ولا أحد يمكنه بالتالي أن يدعي ذلك لنفسه وحده). ثم تؤكد غزالة ما أتمناه شخصيا هو أن نتطرق بالنظر إلى الإنسانية ككل موحد وليس بإقامة تفرقة بين شرق وغرب كما جاء في رسالتك. لكن الأمر يبدو في الوقت الحاضر حلما وأمرا بعيدا كل البعد عن الواقع. لكن ينبغي علينا نظريا على الأقل أن ندافع عن المفهوم القائل بإنسانية موحدة. قد يوحدنا في يوم من الأيام خطر مهدد مشترك. وحتى إن لم يكن هناك حب كبير، بل مجرد علاقة من تلك التي لا تتسم بالخوف – فإن ذلك سيسمح على الأقل بتطوير أواصر تآزر متبادل.
إن موضوع الأمن يمثل اليوم بالفعل هاجسا طاغيا على بقية الموضوعات، وإن الصورة التي تمنح نفسها للخارج وحدها لكفيلة بأن تقود إلى جعل الأطراف الأخرى ترد لفعل بصفة مناسبة لما تمنحه تلك الصورة. وسينتهي التعايش بموجب ذلك في الأخير إلى نوع من لعبة لا ربح فيها ولا خسارة؛ إذا ما خسر طرف يكون الطرف الثاني خاسرا!