لماذا تحتاج أسواق المال المشتقات.. خفض للمخاطر أم تحقيق للمكاسب؟
الحياة كلها مخاطرة وروح المخاطرة ولدت مع الإنسان .. مقولة قديمة وصفة ارتبطت بالنفس البشرية منذ بدء الخليقة، فالإنسان الأول فرضت عليه غريزة البقاء أن يكون في صراع دائم من أجل الحياة تحيط به المخاطر من كل مكان. وإذا ما تجاوزنا مراحل العصور البدائية إلى عصر الحضارة والتقدم والمدنية فإن السؤال الذي يفرض نفسه ويدور في الأذهان هو، هل استطاع الإنسان مع تعاقب الأزمان والتقدم العلمي المذهل الذي شمل كافة جوانب الحياة بشكل عام وأسواق المال بشكل خاص أن يتخلص من المخاطر التي تهدد حياته وآماله ومنشآته ومعاملاته ليعيش في عالم بلا مخاطر؟ بالتالي فإن مجرد تصور عالم بلا مخاطر هو في الواقع استغراق في عالم الخيال، وضرب من ضروب المستحيل بكافة المقاييس والمعايير.
وفي بيئة اقتصاديات المال والأعمال الحديثة كان طبيعيا أن تزداد المخاطر وتتعدد وتتنوع بسبب التطورات الحديثة والمستحدثة ذات الطابع الاقتصادي، إذ أفرزت هذه التطورات تأثيرا ضخما كانت هي العامل الرئيسي في زيادة حدة المخاطر وانتشارها بشكل واسع وسريع في بيئة منظمات المال والأعمال المعاصرة. وإذا عرجنا بالحديث عن أسواق المال على وجه التحديد فإن هذه الأسواق أشد عرضة للمخاطر من الأسواق المختلفة الأخرى، فالمخاطر في هذه الأسواق تباع وتشترى شأنها في ذلك شأن سائر السلع التي تباع وتشترى في مختلف الأسواق.... إذ صارت المخاطر نفسها سلعا متداولة في الأسواق. وهكذا، أصبحت المخاطرة أحد المصطلحات التي شاع استخدامها بشكل متكرر يشغل حيزا كبيرا ومؤثرا من اهتمامات الفكر المالي المعاصر في مجال تحقيق الاستمرارية والأهداف الاستراتيجية لأسواق المال. والمخاطرة بصورة عامة ما هي إلا عدم التأكد بشأن المستقبل واحتمال حدوث نتائج عكسية نتيجة اختلاف النتائج عن التوقعات، وتمثل المخاطر المالية أحدى أكثر المخاطر المرتبطة بتعاملات أسواق المال نتيجة تمتعها بمقدرة كبيرة في التأثير المباشر بشكل متزامن على حركة كافة أسعار المعاملات المالية ولها تأثير مباشر على حركة التدفقات النقدية، إذ ترتبط هذه المخاطر بالتقلبات المستمرة غير الملائمة في الأسعار بفعل المتغيرات البيئية الحديثة الناتجة عن تفاعل قوى السوق لا دخل للأسواق في حدوثها بشكل مباشر، لذا يطلق عليها في كثير من الأحيان بمخاطر السوق. وبالتالي فإذا ما وقعت أسواق المال داخل هذا المجال الفعال لهذه المخاطر كنتيجة لاستخدام الأصول المالية في الاقتصاديات المعاصرة فإنها تصبح عرضة لمخاطر التقلبات في الأسعار(الارتفاع أو الانخفاض)، مما أدى بممارسات الأعمال والمتخصصين إلى السعي وراء إيجاد بعض الوسائل القادرة على توفير التغطية أو الحماية اللازمة ضد هذا النوع من المخاطر. فالمشكلة الرئيسية مع المخاطر ليست فقط في حجمها ولكن في كونها تحدث فجأة ودون توقع، بالإضافة إلى امتدادها لتشمل كافة الأطراف المتعاملة معها وتأثيرها بالتبعية على عملية اتخاذ القرار، مما يعني ضرورة مواجهتها وإدارتها من خلال الوسائل والأساليب المالية المبتكرة القادرة على ذلك بالشكل الذي يعطي مردود ايجابي على الفرد وأسواق المال والنشاط الاقتصادي بوجه عام. وقد أصبح من الممكن الآن ومن خلال استخدام عقود المشتقات المالية مواجهة هذه المخاطر والتعامل معها من خلال عملية التأمين ضد المخاطر بالدخول في صفقات مالية تستخدم أرباحها في تعويض الخسائر الناتجة عن التقلبات المستمرة في الأسعار أو تحويل مخاطر تقلبات الأسعار ونقلها إلى جهات أخرى متخصصة لها القدرة على التنبؤ بتقلبات السوق وتحمل نتائجها إذا وقعت، وهو ما يعرف في عالم المال والأعمال بمدخل التغطية المالية. ويمكن إيضاح هذا الدور من خلال تناول الفلسفة التي يرتكز إليها مدخل التغطية كأداة لإدارة وتغطية المخاطر المالية في أسواق المال. وتبعا لذلك، يستخدم مفهوم التغطية للتعبير عن حالة تواجد مشتق مالي ليؤدي وظيفة تحويل المخاطر التي تتعرض لها أسواق المال إلى أطراف أخرى مستعدين لقبولها من خلال أخذ مراكز عكسية، فالتغطية تقلل من مخاطر تأثير التحركات المعاكسة للأسعار أو التدفقات النقدية كليا أو جزئيا التي قد تحدث من الأصول الأساسية كالأسهم مثلا خلال فترة معينة من الزمن. وبذلك، فهي تشير إلى مركز مؤقت بديل عن مركز سوف يؤخذ مستقبلاً على أصل معين بهدف حماية قيمة أصل ما يملكه المستثمر إلى أن تتم تصفيته. وبشكل عام يمكن القول إن للتغطية صورتين رئيسيتين في أسواق المال تتمثل الأولى في المستخدم الذي تكون لدية الرغبة في شراء أصل مالي معين ولا يملك الموارد المالية اللازمة والكافية لشراء هذا الأصل في تاريخ العملية وإن كانت ستتاح مستقبلاً، غير أنه يخشى من ارتفاع الأسعار في حالة انتظاره حتى تتوافر له تلك الموارد. هذا المستخدم، يمكنه إبرام عقد باستخدام أحد عقود المشتقات المالية يضمن له التعاقد على الأصل بسعر يتم الإنفاق عليه، ويكون التنفيذ الفعلي عند توافر الموارد المالية المطلوبة لإتمام التعاقد. والثانية تكون في المستخدم الذي يمتلك أصل ولديه الرغبة في بيعه في تاريخ لاحق، ولكنه يخشى من انخفاض سعره عند تاريخ تنفيذ الصفقة، وبالتالي يمتلك المستخدم القدرة على إبرام عقد لأحد عقود المشتقات المالية لبيع الأصل مستقبلاً بسعر يتفق عليه في الوقت الذي يتم فيه الاتفاق على البيع المستقبلي. وفى ضوء ما سبق، تقوم فلسفة أو ديناميكية مدخل التغطية كبعد أساسي لإدارة المخاطر على أهمية المقابلة أو الموازنة بين المشتق المالي والأصل المالي المستهدف بالتغطية، فالأداة المالية المشتقة يتم الاستحواذ عليها كأداة للتغطية أو الحماية حيث إن التغيرات في قيمتها أو تدفقاتها النقدية المتوقعة – جزئيا أو كليا – تقابل وبشكل عكسي التغيرات في القيمة العادلة أو التدفقات النقدية الخاصة للأداة الأساسية المستهدف تغطيتها من مخاطر معينة. وبمعنى آخر يمكن القول إن حركتهما في اتجاه عكسي لبعضهما البعض وبقيمة مساوية. وبالتالي ينتج التغير في المشتق المالي بالزيادة تغيرا مساويا له في الوقت نفسه ولكن بالانخفاض للأصل المستهدف بالتغطية الناتج عنه. ولهذه العملية (التغطية) مجموعة من الاعتبارات التي لها أهميتها عند استخدام المشتقات المالية، إذ يجب على مستخدم هذه العقود تحديد أداة المشتق المالي وعدد الوحدات منها لتغطية الأصل المستهدف بالتغطية، وهذا ما يعرف بحجم التغطية والمتمثل في عدد الوحدات المستخدمة من أداة التغطية اللازمة لتغطية وحدة واحدة من البند المستهدف بالتغطية لمركز يأخذه المستخدم في السوق الحاضرة، وهذه العملية قد يطلق عليها أيضا في بعض الأحيان نسبة التغطية. كذلك الأخذ في الاعتبار أيضا ما يعرف بفعالية التغطية وهي قدرة عقود المشتقات المالية المستخدمة كأدوات للحماية على توليد تغيرات في القيمة العادلة أو التغيرات في التدفقات النقدية للأصل المستهدف بالتغطية، وتماثلها في اتجاه عكسي لها. وبالتالي، فإنه لتحقيق فعالية التغطية، من المتوقع أن تكون الأرباح أو الخسائر الناتجة عن إبرام المشتق المالي مكافئة أو موازنة لحد كبير تقريبا للتغيرات في القيمة العادلة للأصل المالي المستهدف بالتغطية أو التدفقات النقدية للأصل المغطى. وثالثا كفاءة التغطية، فالتغطية لها تكلفة وهي تكلفة منخفضة ولكنها غير مجانية تتمثل في تكلفة الصفقة التي تتطلبها عملية التغطية المصاحبة لعملية انتقال المخاطر من الطرف الذي يرغب في تجنبها إلى الطرف الآخر الذي يرغب في تحمل نتائجها إذا وقعت وتكلفة احتمال عدم الحصول على مكاسب مستقبلية متوقعة لتجنب احتمال حدوث خسائر مستقبلية وتكلفة الخسارة الفعلية في حال تحققها وتكلفة إدارة نشاط الحماية، وبارتباط تكلفة التغطية مع فاعلية التغطية يمكن التوصل إلى ما يسمى بكفاءة التغطية وهي الحد الأقصى لحجم المخاطر التي يمكن تخفيضها وذلك في مقابل كل وحدة من وحدات التكلفة. وعليه فإن التغطية المثالية هي التي تحقق أقصى منفعة لمستخدمها.
وتفرق أسواق المال عند التعامل في عقود المشتقات المالية بين نوعين من الاستراتيجيات المستخدمة في توفير الحماية والتغطية من المخاطر هما التغطية قصيرة المدى والتغطية طويلة المدى، وتحقق التغطية قصيرة المدى أو التغطية بمركز قصير الحماية من المخاطر في حالة تملك المستثمر لمحفظة أسهم ما ويتعرض لظروف تتطلب منه بيع جزء منها إلا أنه يخشى أن يكون توقيت البيع غير مناسب وحتى لا يتسبب في تكبد خسائر رأسمالية تقف هنا المشتقات المالية لتقدم له خدمة الحماية من مخاطر انخفاض أسعار الأسهم وقت البيع بإبرامه لعقد مشتق مالي يتصف بالمقدرة على توفير الحماية من المخاطر الذي تتعرض لها الأسهم التي يمتلكها المستثمر فإذا انخفضت أسعار الأسهم في السوق الحاضرة التي تاريخ البيع فإن سعر العقد للمشتق المالي سينخفض بالتبعية لأن سياسة المستثمر تكمن في احتفاظه بالعقد لبيعه في حالة انخفاض أسعار الأسهم المستهدف حمايتها في السوق الحاضرة، وبالتالي حماية تدفقاته النقدية في تاريخ انتهاء التعاقد وتسويته وذلك من خلال أخذ مركز بائع على عقد مشتق مالي لمواجهة مخاطر انخفاض الأسعار لأسهم ما يمتلكها المستثمر في السوق، ولتبسيط الفكرة نفترض أن مستثمرا ما يمتلك أسهما بسعر 100 ألف ريال وأنه تعاقد على بيع هذه الأسهم بإبرام عقد مشتق بالسعر ذاته وهو 100 ألف ريال فإذا ما انخفضت أسعار الأسهم وأصبحت تباع في السوق الحاضرة بمبلغ 800 ألف ريال فإن الخسارة التي منى بها المستثمر في السوق الحاضرة وقت البيع سيعوضها الربح الذي سيجنيه أو يحصل عليه من خلال عقد المشتق المالي وبذات وبالفرق ذاته بين السعرين حيث سيكون بوسعه بيع الأسهم في السوق الحاضرة بسعر 800 ألف ريال وتحقيق أرباح في نفس الوقت من حصيلة مكاسب التسوية النقدية المدفوعة لفروق الأسعار للمشتق المالي في تاريخ تسوية العقد بمقدار الفرق بين سعر العقد المتفق عليه في تاريخ التعاقد والسعر السائد وقت التنفيذ وهو 200 ألف ريال. وتتمثل الاستراتيجية الثانية في التغطية طويلة المدى أو تغطية الشراء وهي تعكس الاستراتيجية الأولى في حالة توقع المستثمر ارتفاع سعر سهم ما يرغب في الحصول عليه في تاريخ مستقبلي لاحق من السوق الحاضرة، وعلى أساس ذلك يمكن للمستثمر الذي يخشى ارتفاع الأسعار إبرام صفقة باستخدام عقد مشتق مالي للحماية من مخاطرة ارتفاع الأسعار في تاريخ الحصول عليه فإذا ما ارتفع سعر السهم في السوق الحاضر فإن سعر المشتق المالي سيرتفع أيضا بالتبعية لينتج ربحا في صالح المستثمر يحقق له حماية تدفقاته النقدية في تاريخ تسوية العقد من خلال الأرباح الناتجة عن ارتفاع عقد المشتق المالي ليعوض خسائر ارتفاع أسعار الأسهم في السوق الحاضرة من خلال أخذه لمركز على عقد شراء أسهم ما بهدف الحماية من مخاطر ارتفاع الأسعار. والمثال على هذه الاستراتيجية لا يختلف عن السابق في كون المستثمر يرغب في شراء أسهم في تاريخ مستقبلي لاحق سعرها الحالي في السوق الحاضرة 100 ألف ريال وخشية ارتفاع أسعارها وقت التنفيذ قرر تغطية مركزه بشراء عقد مشتق مالي بذات السعر 10000 فإذا ما ارتفعت الأسعار وأصبح سعر شرائها 120 ألف ريال فإن المشتري سيتعرض لخسارة عند الشراء بمقدار 20000 تمثل الزيادة في الأسعار في السوق الحاضرة، ويتم تعويض المستثمر بمبلغ هذه الخسارة وهو 20 ألف ريال من حصيلة مكاسب التسوية النقدية لمركز عقد المشتق المالي الذي أبرمه في تاريخ التنفيذ بتحصيل فروق الأسعار بين سعر العقد السائد وقت التعاقد وسعره وقت التنفيذ، ويكون السعر الصافي لشراء الأسهم هو السعر المنصوص عليه في العقد أي 100 ألف ريال.
وتبقى كلمة أخيرة وهي أن المستثمر لن يتأثر بأية تغيرات في الأسعار على أسعار الأسهم في السوق الحاضرة في تاريخ تنفيذ العقد، وينتهي الأمر بأن يكون صافي التدفقات النقدية الخارجة في حالة تغطية الشراء أو الداخلة في حالة تغطية البيع للمستثمر هي 10000 فقط، فهذه العقود هي أدوات لتغطية مراكز استثمارية في السوق الحاضرة مما يعني عدم وجود أية فرصة لكي تتضخم أو تنخفض الأسعار وتصبح عبئا على المستثمر يصعب الوفاء به، كما يعني وجود رصيد كاف على الدوام لكي تدفع منه خسارة التعرض لمخاطر التقلبات في الأسعار في السوق الحاضرة.