البيروقراطية كما أفهمها

تعاني جميع الشعوب بيروقراطيات حكوماتها وتعاني الحكومات في معظم دول العالم قصورا ذاتيا يحد من قدرتها على تنفيذ البرامج والخدمات التي تعدها لمواطنيها ويسود لدى المسؤولين على مختلف درجاتهم شعور بالإحباط وفتور في الجهد لإدراكهم أن مساهماتهم تفقد فاعليتها أو بعضاً من فائدتها بعراكها البيروقراطي.
لفهم البيروقراطية بالصورة الصحيحة, وهو لا مناص منه لمعالجة أثرها في جودة وفاعلية الأداء الحكومي, لا بد من تعريفها بصورة مفهومة ومحددة, وقد اختلف الباحثون في تعريف البيروقراطية اعتمادا على منهج كل منهم, وأجد أنني أميل إلى اعتماد أن البيروقراطية هي محصلة لمفاهيم وقوانين ونظم تمثل نواة فكرية يغلفها محصلة أخرى للمعالجة الإنسانية تتمثل في معارف ووجدان ومهارة الموظفين المنفذين لإجراءات العمل الإداري الحكومي ثم يغلف كل ذلك محصلة الوسائل والتقنيات والأجهزة، التي يمكن تسميتها محصلة الدعم والتيسير وحتى يكون هذا التعريف مؤديا لغرض الفهم سأقوم بشرح كل من المكونات لهذا التعريف فيما يلي:
محصلة النواة الفكرية
إن محصلة النواة المكونة من المفاهيم والقوانين والنظم تتميز بأنها أكثر المحصلات صعوبة في التعديل, حيث تكونت من ركام من المفاهيم لطبيعة العمل الحكومي وكونه قائما على ظاهرة الأبوية، فالدولة هي حاضن الشعب وجهازها الحكومي يتقمص دور الولاية، لذا يتم التركيز على عملية التشريع ومراعاة المصلحة العامة وحفظ كيان المجتمع وفي آخر الأولويات تأتي عملية الخدمة، حيث الخدمة دائماً هي فردية التوجيه وفلسفة العمل الحكومي لا تهتم بالفردية على حساب الجماعية، لذا نجد أن نواة البيروقراطية متأصلة بمفهوم بقاء الدولة, ولذلك تجليات كثيرة فالدولة تولي الجوانب السيادية كالدفاع والأمن والعلاقات الخارجية اهتماما أجل من جوانب الخدمة الحضارية الموجهة لأفراد المجتمع. وأي تغيير في نواة البيروقراطية لا بد أن يكون مقروناً بتغيير في فلسفة الدور الحكومي كمحرك للتغيير في مكونات نواة البيروقراطية التي تشمل:
المفاهيم
المفاهيم هي تلك المسلمات التي ارتبطت بمعتقدات الناس وعلى أساسها تصاغ سلوكياتهم وتوجهاتهم، وقد يؤثر في المفاهيم إلى جانب المعتقدات الدينية والعادات والتقاليد القبلية عوامل أخرى مثل رعاية المصالح الخاصة واحترام الذات والأطماع والخوف من فقدان الدور والتأثير. ولا يميل الناس لتوثيق مفاهيمهم لأنها تتبدل من شخص إلى آخر، وتبعاً للظروف عند الشخص الواحد ثم إنها عديدة وغير متجانسة وهي على أربع درجات من حيث الثبات والشمول فالمفاهيم التفصيلية عادة ما تكون شديدة التبدل والمفاهيم الخاصة قليلة التبدل ولكنها ضعيفة الشمول وتتأثر كثيراً بمحتوى الثقافة الشخصية، أما المفاهيم العامة فسائدة بين فئة اجتماعية ولا تتبدل إلا نتيجة لنشاط جماعي لدى الجماعة المعنية، أما المفاهيم الشاملة فهي شاملة وتغيرها لا يحدث ألا بتأثير عوامل كارثية أو طويلة المدى الزمني.
القوانين
هي تشريعات محددة تنظم التعامل بين الأفراد والمجموعات والحكومة، وتهدف إلى تحقيق العدالة بين مكونات المجتمع من حيث توزيع الثروة وحفظ الحقوق وحماية الناس وممتلكاتهم والقوانين متعلقة بمقتضيات الحال وتؤثر فيها المفاهيم بدرجة عالية، لذا تخضع القوانين من حين لآخر للتعديل والتحوير نتيجة لحاجة الدولة بالدرجة الأولى إلى تنفيذ دورها الأبوي بالصورة المثلى.

النظم
هي تراكيب للمهام والنشاطات الإنتاجية، بحيث تترتب من حيث التغذية والإنتاج، وقد تكون النظم بسيطة تتكون من مهمة أو مهمتين وقد تكون معقدة بحيث تتكون من نظم فرعية متعددة ومهام مستقلة أو مؤقتة وبعض النظم مستقرة مبنية على تغذية ونتائج حتمية أو قد تكون متأقلمة مع المتغيرات بحيث تكون نتائجها مستهدفة أو مبنية على تغذية معينة والنظم بصفة عامة تتكون من أربعة مكونات هي المدخلات، التي عادة ما تكون أوامر أو معلومات ومتطلبات ومخرجات، التي تكون على صفة تقارير وقرارات وتوجيهات ومعالجة، وهي العملية الفكرية التي تصاغ من خلالها المخرجات بناء على المفاهيم والقوانين، والمكون الرابع هو التغذية الراجعة وفي البيروقراطية الحكومية تكون التغذية الراجعة إما ضعيفة وإما متأخرة التوقيت، وفي أحيان كثيرة تكون معدومة، وهذا ما يجعل النظم البيروقراطية ضعيفة التأثير، خصوصاً إذا كانت معقدة كنظم الوزارات والدوائر الحكومية الكبيرة.

محصلة المعالجة الإنسانية
وتتكون محصلة المعالجة الإنسانية، التي يمكن الإشارة إليها بالكفاءة من مجموع المعارف والوجدان والمهارة وتفصيلها:
المعارف
هي مجموع المعارف المكونة لمعلومات قد تكون صادقة أو غير صادقة وتتمثل المعارف على هيئتين، الهيئة الأولى وهي المعارف المطلقة أو الحرة، التي لا يستلزم العلم بها أداء حتميا وتصرفا ملزما والهيئة الأخرى هي المعارف الضمنية، التي تستلزم المعرفة بها نتاجا محددا أو أداء محددا مثل الخوف يستلزم الحذر أو تكون مرتبطة بنشاط معين، فالجري يستلزم معرفة تحريك الأيدي والأرجل. ويكون تحصيل المعرفة بالاطلاع والاستيعاب عن طريق الحواس والتمرين المتواصل والتعويد فيما يخص المعارف الضمنية.
الوجدان
الوجدان هو الشعور المستقر تجاه وضع معين يستلزم تصرفا معينا فمن لديه وجدان تجاه الخدمة العامة يستلزم أن يتصرف بإيجابية تجاه خدمة الناس ومن لديه وجدان يعارض الاستئثار سيكون ميلاً لرفض المحسوبية ومن لديه وجدان تجاه العصبية سيكون ميالاً لنصرة ذوي القربى, والوجدان في الغالب نتيجة لتفعيل المفاهيم التكتيكية عند الأشخاص قليلي التحصيل الثقافي أما متطورو المحتوى الثقافي فيصيغون وجدانهم بناء على مفاهيمهم الخاصة.
المهارة
تتمثل المهارة في إنجاز الأعمال بجودة عالية حسب المقاييس الموضوعة، وضمن الإطار الزمني المحدد وتكون المهارة مهمة لإجراء الأعمال المتكررة، حيث يبرز عامل الجودة والزمن بصورة واضحة وتنتج المهارة من التعلم والتدرب الواعي وتعتبر المهارة في بعض الأعمال مصدرا للسلطة، فنجد الموظف الماهر في عمل ما هو من يضع معايير الجودة وهو من يقرر أو يوصي بتبني تقنيات أو توظيف أجهزة معينة لتحسين العمل.

محصلة الدعم والتيسير
تتكون محصلة الدعم والتيسير من مجموعة الوسائل المادية كالأدوات المكتبية والاتصالات الهاتفية والفاكسية والنقل والتخزين والتقنيات كالبرامج الكمبيوترية والمعالجات الإحصائية والبيانية والأجهزة، التي تشمل جميع الأجهزة الميسرة للعمل كآلات التصوير وماكينات خزن الملفات وأجهزة الحاسب الآلي والطابعات.. إلخ .. وتعتبر محصلة الدعم والتيسير مهمة لما توفره من جهد ووقت في سبيل إنجاز المهام خصوصاً تلك التي تستلزم البحث وجمع البيانات والمعالجة الإحصائية أو الرياضية ولكن محصلة الدعم والتيسير قد تساهم في تعقيد العملية البيروقراطية أو تسهيلها فدورها يعتمد على محصلة المعالجة الإنسانية، التي بدورها تعتمد على محصلة النواة الفكرية.
إن فهم البيروقراطية على هذه الصورة يجعل المحلل قادرا على الغوص في التعريف وتحليل مكوناته, حيث إن كل مكون يؤثر بصيغة فردية وأخرى تضافرية مع المكونات الأخرى ومن الصعب الظن بأن أي تغيير في أحد المكونات يمكن أن يفضي إلى تغيير بالمحصلة الكلية، وإذا تم ذلك على سبيل الافتراض فلن يستمر طويلاً، حيث تسود ظاهرة قوة التضافرية في تجانس التأثير. لذا أعتقد أنه لا بد من النظرة الشمولية لكل محصلة من محصلات مكون البيروقراطية، بالنظر إلى محصلة النواة نجد المكونات هي المفاهيم والنظم والقوانين وهذه المكونات مرتبطة ببعضها ارتباطاً قوياً، فتعديل المفهوم لن يؤثر إذا كانت القوانين لا تسند إلى تعديل المفهوم أو أن تعديل القانون لن يخدم الإنجاز إذا لم يدعمه تعديل مناسب في المفهوم. وكذلك الحال ولكن على نحو أيسر في محصلة المعالجة الإنسانية، أما محصلة الدعم والتيسير فالتعديل في أي من مكوناتها يساهم بصورة واضحة في الأداء، وذلك لكون ارتباط المكونات غير حقيقي أي أن أي منها يمكن أن يؤدي غرضه بمعزل عن جودة أو رداءة المكونات الأخرى.
إذاً نحن دائماً أمام معضلة التغيير في محصلة النواة الفكرية ومحصلة المعالجة الإنسانية، وقد أثبتت التجربة أن التعديل في محصلة المعالجة الإنسانية يكون بالتدريب المستمر والتوعية الخاصة، أما التعديل في محصلة النواة الفكرية فيأخذ جهداً ووقتاً أكبر وهو ما يجهد المصلحين في الأداء الحكومي ويفتر همم المسؤولين الراغبين في تحسين الأداء، لذا كان لا بد أن يكون هناك نظرة أخرى لعملية الإصلاح في الأجهزة الحكومية والتحايل على استعصاء محصلة النواة الفكرية على التغيير، وذلك بالنظر إلى العمل البيروقراطي من خلال هيكليته, فهيكلية العمل البيروقراطي تقوم على عدد من الظواهر هي ظاهرة التصومع وسيادة قانون باركنسون وظاهرة مركزية السلطة, وظاهرة التخلي.
ظاهرة التصومع
تتكون الأجهزة الحكومية من عدة إدارات يباشرها رئيس واحد، وتكون الإدارات مكونة حول نشاط معين ويرأسها مدير، فتكون هذه الإدارة أشبه بالصومعة المغلقة، حيث يقتصر العبور لها أو منها على باب واحد هو المدير ويكاد من هو خارج الصومعة يجهل ما يحدث بداخلها حتى رئيس الجهاز الإداري الأعلى، وهذا التصومع مردود في الأصل إلى مفهوم السلطة والتفويض وحماية الموظفين من الزلل أو الخطأ، لذا يتميز الإجراء بأنه من الأعلى إلى الأسفل ثم يعود من الأسفل إلى الأعلى وفي كل مرحلة يتم التدقيق والمراجعة حتى يكون الناتج خالياً من أي نقص, ولكن في الغالب يكون الناتج موسوماً بمفهوم جماعي للإدارة الصومعة.
سيادة قانون باركنسون
يقول قانون باركنسون "يتوسع العمل حتى يستوعب الوقت المتاح لإنجازه work expands to fill the time available for its completion"، ويسود قانون باركنسون في ظل عوامل زيادة الموظفين عن الإجراء وضعف التغذية الراجعة للنظام، فنجد الموظف المعين على وظيفة تستهلك جزء من دوامه والباقي من الدوام يقضيه شاغر الجهد يميل إلى الإبداع في توسيع مهامه، إما بإضافة مهام جديدة للإجراء وإما أطالة عملية معالجته بحيث تستهلك الوقت المتاح للوظيفة وهو يقوم بذلك لا شعورياً من منطلق التحسين والتطوير، في حين أنه يخلق مهام زائدة على الحاجة وتمثل إعاقة لتيسير العمل وعادة ما تستمر الإضافات التي ابتدعها الموظف حتى بعد نقله لوظيفة أخرى وتوظيف آخر مكانه.
ظاهرة تمحور السلطة
حيث يسود مفهوم الضبط والتدقيق في العمل الحكومي وحيث يسيطر الترقي المبني على الأقدمية ومحدودية الفرص الوظيفية كلما ترقى الموظف في الهرم الوظيفي، فإن السلطة في التدقيق والضبط تتوزع بين الموظفين بصفة هرمية مما يضغط على الجهاز الإداري باستمرار في خلق وظائف هرمية، وأحياناً أجهزة هرمية هذا يجعل المراتب الوظيفية بين قعر الهرم ورأسه لا تتناسب مع عدد المراتب الأفقية للجهاز، وهو ما يجعل الوقت المتاح للسيطرة بالتدقيق والضبط أطول من الوقت المتاح للمعالجة اللازمة لإنتاج العمل.
ظاهرة التخلي
تعتبر ظاهرة التخلي من الظواهر الجديدة في العمل البيروقراطي أو هي ظاهرة ملازمة لكبر الجهاز الإداري، فكلما كبر الجهاز الإداري تتداخل الصلاحيات والمسؤوليات ويكون التخلي برمي المهام وخصوصاً تلك التي يحتمل الخطأ فيها إلى إدارات أخرى أو وظائف أخرى بحجج عديدة منها عدم الاختصاص أو قلة الموارد أو عدم توافر برنامج معين أو التزام بمهام أخرى.. إلخ .. والتخلي في العادة اختياري وهو ما يجعل تحليل المهام صعبا حيث نجد بعض الإدارات تقوم بعمل ما في وقت ما ولظروف معينة ثم تتخلى عن عمل مماثل بحجج أخرى ثم تعود مرة أخرى وتنتقي أن تعمل العمل نفسه. لذا تعد ظاهرة التخلي من أعقد الظواهر في التحليل حيث يصعب اكتشاف الظاهرة أصلاً، وإذا اكتشفت يصعب تحديد دوافعها ولكن المعروف أن ضبط الإجراءات ووضع تفصيل للوائح والصلاحيات يحد من الظاهرة.
وخلاصة القول إن ظواهر العمل البيروقراطي المميتة للإنتاج تسود وتزدهر في ظل الأجهزة الإدارية المعقدة والكبيرة ولا سبيل إلى معالجتها بصفة ناجعة إلا بتصغير تلك الأجهزة، إما بالاعتماد على التقنية وتقنين المهام وإما بفصل تلك الأجهزة عن بعضها وجعل كل جهاز يتمحور حول إجراء محدد معروف المدخلات والمخرجات وهو ما يمكن أن يطلق عليه "اللامركزية". ولكي يتم الاختيار بين أي من الخيارين لا بد من إجراء بحث وتحليل للعمل وتشريح مكوناته بصورة تضمن التعرف على جميع العوامل المؤثرة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي