هل للجودة تكاليف تستحقها؟!
في مساءٍ جميل.. حضر جميع أفراد الشركة الموقرة، وكلهم في شوق لبدء مراسم حفل التكريم بمناسبة حصول الشركة على شهادة عالمية في الجودة.. ثم بدأت الفقرات؛ فقرة تلو الأخرى.. في جو مفعم بالمرح ونشوة الإنجاز حتى جاء دور كلمة سعادة الرئيس التنفيذي، التي توقع الجميع منها أن تشنّف الآذان بقصائد الشكر والثناء.. وتنثر لآلئ التكريم وجزيل العطاء.. وإذ به يمتطي جواد الخطاب... ويمسك بزمام الآذان والألباب.. وبلا مقدمات لحديثه، إذا به يصرخ! عندها ظن الحضور أنها صرخة الفرح والسرور! ولكن.. يا للمفاجأة.. لم يكن الأمر كذلك! وإنما كان يصرخ غضباً!! لماذا يا ترى وقد حققت الشركة إنجازاً غير مسبوق؟ وإذ به يفاجئ الحضور بقوله.. كفاية إنفاق وتبذير! إن تكاليف الجودة باهظة! ولا مردود لها.. فلماذا نستثمر فيها؟؟
لقد دفعنا مبالغ كبيرة للحصول على شهادتي الآيزو في الإدارة والسلامة!
لقد دفعنا مبالغ كبيرة للاستفادة من استشاريي الجودة وتوظيف إخصائيين للجودة!
لقد دفعنا مبالغ كبيرة في تطبيقات الجودة والتدريب عليها!
لقد دفعنا الكثير والكثير لشراء مكائن وأدوات القياس والمعايرة!!
لقد دفعنا وأنفقنا مبالغ باهظة في إعداد صف قيادي ثان! لقد أنفقنا.. وأنفقنا.. وأنفقنا!
ويتابع سعادة الرئيس حديثه بتساؤلات.. فيقول: أليس من الأفضل من ذلك كله أننا نبيع منتج شركتنا للمستهلكين دون أن نتحمل تكاليف إضافية؟.. ونحن واثقون من قبول المستهلك به! فلا يوجد بدائل له!
أليس من الأفضل والأرخص لنا.. أننا وظفنا عمالة رخيصة ولم نحتج إلى خبراء الجودة!
أليس من الأفضل من ذلك كله.. أننا لم نبحث عن شهادة الجودة ولا تطبيقاتها.. بل اكتفينا بخبرتنا القديمة في السوق!!
ثم يختم قائلاً: أقول لكم .. بلى..!! لذا فإننا سنتوقف وبلا تردد عن دعم قسم الجودة.. وسنضحي به وبأفراده هذه الليلة أمامكم!! أما يقولون.. (خذ الآيزو.. واعمل زي مانت عايزو)..!
وهكذا يسدل الستار على النهاية الحزينة لحفل الشركة العجيبة..
عزيزي القارئ.. أجزم أن صاحبنا هذا - في هذه القصة التخيلية في طرحها.. الواقعية في هدفها ومضمونها - قد تحدث بلسان حال كثيرٍ من معاشر المديرين والمسؤولين الأكارم، الذين يصرحون بأنهم قد بذلوا الكثير من الجهود المضنية والمكلفة لنظام الجودة في منشآتهم خلال فترات زمنية طويلة.. ثم.. لا يزالون يتساءلون.. هل ما تم بذله ودفعه في تطبيق أنظمة الجودة مستحقٌ وجديرٌ بها أم لا؟
لذا فإنني وبكل صراحة أوافق هذا الرئيس المسكين الذي تعرضت شركته لخسارة كبيرة في هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة.. نعم أوافقه تماماً على أن للجودة تكاليف باهظة! ولكنني أتساءل.. هل التكاليف الباهظة للجودة هي عين ما ذكره صاحبنا بمفهومه هو ومجمل معلوماته؟ أم أن تكاليف الجودة الباهظة هي تكاليف أخرى لم يذكرها صاحبنا ولم يحط بها علما؟
هل التكاليف الباهظة هي التي كما يدعي صاحبنا؟.. أم أنها التكاليف التي تترتب على فقد الجودة في المنتج، ومن ثم وصوله إلى المستفيد أو المستخدم.. وقد يعرضه لفقد حياته أو شيءٍ منها بسبب ذلك المنتج غير الصالح للاستخدام! فيتعرض صاحبنا وشركته للمساءلة القانونية والاجتماعية.. فيدفع الكثير والكثير من التبعات المالية!!..التي كان من الممكن أن يكون صاحبنا في منأى عنها!
أم أن التكاليف الباهظة هي التي تضطر شركة صاحبنا أن تستدعي منتجها وتسترجعه من السوق.. فتتكبد خسائر مضاعفة في الإعلان والاستدعاء والتبعات المترتبة عليها! والتي كان من الممكن تجنبها!
أم أن التكاليف الباهظة هي التي تتكبدها شركتنا الموقرة عندما تفقد سمعتها عند عملائها بسبب رداءة جودة المنتج أو الخدمة.. والدراسات العلمية تذكر بأن كل عميل غير راض عن المنتج أو الخدمة يؤثر في خسارة 14 عميلاً آخرين! كان صاحبنا يستطيع منع ذلك.
ومعني ذلك أن للجودة تكاليف, وتكاليفها إما لضمان الجودة وتحسينها، وإما بسبب الجودة الرديئة للمنتج وهي الأخطر والأكثر تكلفة والتي تقدر تكلفتها بـ 10 إلى 30 في المائة من ميزانيات الشركات!
هذا وقد صنف عالما الجودة فيغنباوم، وجوران تكاليف الجودة إلى أربعة أقسام هي كما يلي:
1- التكاليف الوقائية: وهي تكاليف جميع الأنشطة والأعمال التي صممت خصيصا لضمان الجودة في المنتج والخدمة، مثل تكاليف أبحاث السوق المخصصة لتحديد مواصفات العميل، وتقييم الموردين والمساهمة في تأكيد جودتهم، وكذلك التكاليف الناتجة من جراء التدريب...إلخ وهذه هي التكاليف هي التي أزعجت صاحبنا!
2- التكاليف التقييمية: وهي التكاليف المرتبطة بعمليات فحص، وتدقيق المنتج أو الخدمة للتأكد من المطابقة لمقاييس الجودة ومتطلبات الأداء. مثل تكاليف شراء أجهزة الفحص والقياس، وتكاليف عمليات المراجعة والتدقيق...إلخ.
3- تكاليف المنتج غير المطابق(داخلياً): وهي جميع التكاليف الناتجة عن منتج أو خدمة غير موائمة ومطابقة للمواصفات، وتم اكتشافه داخلياً قبل تسليمه أو شحنه للعميل. ويدخل فيها تكاليف عملية إجراء الإصلاح أو الإهلاك للمنتج بسبب عدم إمكانية إصلاحه، وكذلك تكاليف تخفيض قيمة المنتج أو الخدمة لأسباب نقص مستوى الجودة.
4- تكاليف المنتج غير المطابق (خارجياً): وهي جميع التكاليف الناتجة من المنتج أو الخدمة غير الموائمة والمطابقة للمواصفات، وقد تم اكتشافه بعد تسليمه وشحنه للعميل أو بعد استخدامه. مثل التكاليف المترتبة على شكاوى العملاء، والبضائع المسترجعة، والمعاد تجديدها أو إصلاحها، وكذلك تكاليف مطالبات الضمان، وتكاليف المسؤولية القانونية وهي الأخطر، خصوصاً عند تعرض العميل لتأثير سلبي من المنتج أو الخدمة المقدمة.
وبكل تأكيد فالاستثمار في الأنشطة الوقائية والتقييمية للجودة هو المطلوب ويفيد في تقليل تكاليف عدم المطابقة.
عزيزي القارئ.. لقد أولت كثير من الشركات بل والدول الاهتمام بقياس تكاليف الجودة، لأن ذلك سيساعد في تخفيض التكاليف الإجمالية للمنتج أو الخدمة والسيطرة عليها بفعالية، ما يؤدي إلى تعزيز فرص المنافسة في حصة السوق، فمثلاً قررت الحكومة السنغافورية عام 1998 دفع 40 مليون دولار لمساعدة المنظمات السنغافورية لتأسيس مفهوم نظام تكاليف الجودة.
هذا وقد قمت بدراسة ميدانية عام 2005 لإتمام بحث مرحلة الماجستير على المصانع الحاصلة على آيزو 9000 في مدينة جدة للتعرف على مدى تطبيقهم مبادئ قياس تكاليف الجودة.. وللأسف كانت النتيجة مخيبة للآمال، حيث إنها لم تتعد 5 في المائة من عينة البحث.
وأخير.. أظن أن صاحبنا سعادة الرئيس قد بدأ يقتنع ويصحح تصوراته تجاه الجودة وأنه إذا لم ينفق في المسار الصحيح ويستثمر في تكاليف ضمان الجودة، فإنه سينفق ـ لا قدر الله ـ أضعافاً مضاعفة في حالة فقد الجودة!
فهل نعي معاشر المديرين والملاك هذه الحقيقة؟ فالمنافسة الاقتصادية شرسة ولا مجال للمنتج أو الخدمة التي تفتقد الجودة، خصوصاً في ظل دوران عجلة العولمة، وذوبان الحدود، ورفع القيود عن المنافسة الخارجية.. فالجودة رحلة تحتاج منا إلى الصبر والبذل وعدم اليأس والالتزام بذلك، فهي تستحق أن ينفق عليها.