عشت سعيدا!

إنه عنوان يدعو للتفاؤل. وهو في الواقع عنوان كتاب صدر حديثا للطيار الركن عبد الله السعدون قائد كلية الملك فيصل الجوية المتقاعد.
وأعجب، في سيرة هذا الرجل الفذ أنه ساق الطيارة بعد الدراجة، ثم تعلم بعدها قيادة السيارة!
الطيار أبو نايف صديق حميم لي منذ عدة سنوات، وهو يكسر مسلمة سائدة عن العسكريين الزاهدين في القراءة؛ فهو قارئ نهم، مثقف بجدارة، عظيم الهمة، منضبط في مواعيده مثل فيلسوف التنوير كانط في نزهته اليومية، دائم التبسم، دليلا على النجاح وضبط الأمور، بنى عائلة رائعة، وسار مهنيا من فوز إلى فوز أكبر، ونشأ من بيئة مكافحة من الغاط في وسط المملكة، فكان نموذج الرجل الناجح في الحياة؛ فلا غرابة إن كان عنوان كتابه؛ عشت سعيدا فما أكثر البؤساء التعساء!
إنه سعيد في عمله، سعيد في تقاعده، سعيد في الحياة، يتمتع بها مع شروق كل شمس؛ فطوبى له وللسعادة التي وجدت أرضها في صدره.
في كتابه الجديد الذي صدر قبل فترة قصيرة دروس رائعة للفائدة؛ وفي المحاضرة التي تقدم بها في جامعة الملك سعود في الرياض، ابتدأ بذكر حكمتين واحدة عن مسن إفريقي؛ يقول إن أي شيخ طاعن في السن يموت تموت معه مكتبة، فوجب الاستفادة من كل كبير السن.
وروى من أمثال الصينيين؛ أن أهم ثلاثة أمور في حياة المرء هي؛ بناء أسرة، وزرع شجرة، وقراءة كتاب! ولكن ليس كل كتاب مثل أي كتاب، وكتاب أبو نايف بحر يعج بالدرر.
هكذا بدأ محاضرته من الشرق والغرب، مرورا بأمريكا، وانتهاء بالشرق الأوسط ونكباته، ثم ختام رحلته المهنية قائدا للكلية الجوية في المملكة، ذخرا لها وفخرا من أمثال هذه النماذج التي تجمع بين روح الانضباط العسكري، والزهد في الحياة، والاعتدال في النفقة مع التمتع المعتدل بالحياة، وعمق الثقافة.
إنه الآن يقضي وقته في رياضة المشي في جبال الغاط، ورياض الفكر بين الكتب والمحاضرات والندوات العلمية والرحلات، يقطف من كل بستان زهرة، ويوزع في كل حقل ومحاضرة فكرة. وأخيرا حظي به مجلس الشورى عضوا نافعا لتطوير البلد إلى الأفضل.
تكلم في كتابه عن مجتمع القرية بسيئاته وحسناته، وتكلم عن العمة سارة قوية الشخصية، التي تزوجت وطلقت سبع مرات، بدون الشعور بالنقص والمهانة، وأن الطلاق نهاية الحياة، بل نهاية حياة لبدء حياة جديدة.
وتكلم عن الحنين إلى الماضي، وأن هذا الحنين نصفه صادق، وتحدث عن القسوة في تلك الأيام، ولعلها من البيئة الصعبة، وأن الكثير من رجال تلك الأيام كان قاسيا مع أطفاله ولم يكن ليداعب زوجته بكلمات الحب ويعتبرها ضربا من العيب والضعف.
حرم أبو نايف من الأب وهو صغير فنشأ عصاميا صلبا يقدر النعمة ويخاف الفتنة ويسأل الله الرحمة.
كذلك يروي عن الأساتذة في أيامه كيف كانوا يومها قساة على التلاميذ، أما هو فكان يقصد مدرسته حافيا، ومن ركب حمارا كان أفضل من ركب مرسيدس فياجرا هذه الأيام.
وحين يتحدث عن تجربته في الولايات المتحدة يشير إلى النظام والأدب واحترام الإنسان والوقت وأهمية العمل، ورجع بزاد جيد ليس فقط من الناحية التقنية بل السلوك والتصرف.
ويقول إنه في ممارسته الميدانية إنه حاول جهده أن يؤسس بين الضباط عرفا ألا يهان شخص ولو أخطأ، بل يصحح له خطؤه بما يحفظ كرامته وهو درس عظيم.
وحين يشير إلى مرض والدته يتكلم بلهجة لا تخلو من الأسى كيف ضل الأطباء طريقهم للتشخيص المبكر، وكيف كان دور المشعوذين لا يقدم في التحرر من المرض إلا وبالا.
وحين يحلق بفكره مع الطائرة فوق الحرمين، ويتجه للشمال، يقول إنه الوطن العظيم أكبر من قامة الأشخاص، فلنحمل همه فوق تفاهات الروتين، ونزاعات الأشخاص.
إنه كتاب جدير بالقراءة، كما أنها قصة حالمة من الدراجة إلى الطيارة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي