الموازنة وأسعار النفط
هناك أسئلة كثيرة تتعلق بالعلاقة بين الموازنة وأسعار النفط، إلا أن مقال اليوم يتركز حول الإجابة على سؤال واحد هو: هل تؤثر أسعار النفط التي تبنى عليها موازنات الدول النفطية في أسواق النفط العالمية؟
قبل الإجابة على هذا السؤال لنستعرض الأسعار التي بنيت عليها موازنات بعض الدول النفطية للعام المالي 2009 - 2010، والتي تم اختصارها في الشكل البياني المرفق. نظرة سريعة إلى هذه الأسعار توضح أن الأسعار التي تبنتها دول الخليج محافظة مقارنة بغيرها، ولكن يلاحظ أيضا أنا هناك فروقا كبيرة بين الدول النفطية حيث يبلغ سعر بعض الدول ضعف سعر الدول الأخرى. ومن الواضح أن هذه الفروق سببها عوامل جيولوجية وفنية واقتصادية واجتماعية وسياسية، ولكن أوضح هذه الفروق هي أن الدول الغنية تبنت أسعاراً أقل من الدول الفقيرة. وهنا لابد من توضيح أمرين. الأول هو أن الأسعار التي تبنى عليها الموازنات هي أرقام سرية في أغلب الدول النفطية، خاصة دول الخليج، ولكن يمكن للخبراء تقديرها بناء على عوامل عدة. لذلك فإن الأسعار المذكورة هي أسعار من تقدير الخبراء، و ليست من الحكومات نفسها. الثاني أن هذه الأسعار تغيرت في الشهور الأخيرة حيث تم تعديلها نزولا لأكثر من مرة في بعض الدول، وبنسب راوحت بين 40 و60 في المائة من التقديرات الأولية.
تقديرات أسعار النفط في موازنات الدول النفطية للعام المالي 2009 - 2010
المصدر: ميس، وسائل الإعلام المختلفة، وإن جي بي إنيريجي، 2009.
هل تؤثر أسعار النفط المستخدمة في الموازنات في أسواق النفط؟
لا تؤثر الأسعار المستخدمة في الموازنات، بشكل عام، في أسواق النفط على الإطلاق. هذه الأسعار مجرد مؤشرات يستخدمها المشرفون على الموازنة بهدف التخطيط المالي، وغالبا ما يكون قرار اختيار السعر مستقلاً عن قرار إنتاج النفط. وعلى الرغم من وجود دلائل من بعض البلاد على أن قرار تبني سعر معين في الموازنة مستقل تماما عن وزارات الطاقة أو النفط في الدول المنتجة، إلا أن هناك دلائل من بلاد أخرى تشير إلى أن دور وزارات الطاقة أو النفط هو دور استشاري فقط. بعبارة أخرى، ليس هناك دليل على تنسيق كامل بين مخططي الموازنة وبين راسمي استراتيجية إنتاج النفط في الدول المنتجة، الأمر الذي يؤكد أن السعر الذي يستخدم في الموازنة هو مجرد مؤشر فقط. ويؤكد هذه النتيجة أنه ليس من الضروري أن يكون السعر الذي تبنى عليه الموازنة هو السعر الذي يؤدي إلى توازن الموازنة. فكما رأينا في الشهور الأخيرة فإنه رغم اختيار أسعار معينة، إلا أن موازنات أغلب الدول النفطية تعاني عجزا فيها، ولكن حتى نفهم أثر أسعار النفط التي تبنى عليها الموازنات في أسواق النفط العالمية علينا أن نفرق بين الأثر المباشر و الأثر غير المباشر.
الأثر المباشر
الأثر المباشر يتمثل في قيام دول "أوبك" بالدفاع عن الأسعار التي تبنتها في موازناتها. ولكن كما هو موضح في الشكل البياني أعلاه فإن دول أوبك تبنت أسعارا مختلفة، كما نعرف من بيانات الإنتاج أن هناك دولا قليلة لها رغبة في تخفيض الإنتاج. لذلك فإن الأثر المباشر لا يظهر إلا في المدى القصير وذلك عندما يقوم منتج كبير بتخفيض الإنتاج بكميات كبيرة للدفاع عن سعر معين. في هذه الحالة نجد أن السعودية هي المنتج الوحيد الذي يمكنه ذلك كونها أكبر منتج للنفط تاريخيا، وكونها قامت بأكبر تخفيض، وكون التخفيض أكبر مما طلبته منها "أوبك". بناء على ذلك فإن السعر الذي استخدمته السعودية لبناء موازنتها، الذي يقدر بين 38 و45 دولارا للبرميل، يصبح أرضية الأسعار في أسواق النفط العالمية.
ولكن يمكن رفض الخلاصة السابقة بسهولة والقول إنه حتى السعر الذي تبنته السعودية لبناء موازنتها لا يؤثر في أسواق النفط العالمية، وذلك لأن لدى السعودية خيارات عديدة لتلافي عجز في الموازنة أو تمويل ذلك العجز, فيمكن للسعودية، مثلا، أن تزيد الإنتاج وتعوض ما خسرته من السعر ببيع كميات إضافية. كما يمكنها تمويل أي عجز إضافي من الفائض أو عن طريق الاستدانة من البنوك المحلية والأجنبية. وقد يكون أفضل الحلول لديها هي الحلول التي تبنتها في الماضي عدة مرات: تخفيض الإنفاق مع استمرار انخفاض أسعار النفط. كما أن هناك دلائل أخرى تؤكد صحة هذا الرأي، منها أن تصريحات المسؤولين في السعودية لا تشير إلى الربط بين الموازنة وأسعار النفط، ولكنها تشير باستمرار إلى الربط بين الأسعار وتكاليف الإنتاج، وبين الأسعار واستقرار أسواق النفط العالمية، وبين أسعار السوق و"السعر العادل للنفط". وهنا لا بد من التذكير أنه إذا ارتفعت أسعار النفط في الأسواق فوق السعر الذي بنيت عليه الموازنة، فإن هذا لا يعني أن هذا السعر "عادل"، خاصة أن السعودية اعتبرت أن السعر العادل هو 75 دولارا للبرميل، بينما اعتبرت بعض الدول الأخرى أن السعر العادل هو 200 دولار للبرميل. بغض النظر عما سلف فإن مفهوم "السعر العادل" مفهوم ضبابي مطاط ليس له تعريف محدد ويتغير باستمرار حسبما تقتضيه المصلحة.
الأثر غير المباشر
يتمثل الأثر غير المباشر في الآثار السلبية الناتجة عن تخفيض الإنفاق الناتج عن تبني أسعار منخفضة في إعداد الموازنة. وهذا الأثر أكثر أهمية من الأثر السابق، لأن انخفاض أسعار النفط، وبالتالي انخفاض الموازنات، يؤدي إلى انخفاض معدلات النمو الاقتصادي، وانخفاض الإنفاق على مشاريع النفط الجديدة، وانخفاض الإنفاق على صيانة المشاريع الحالية، الأمر الذي يؤدي إلى انخفاض الإنتاج، وبالتالي ارتفاع أسعار النفط في المستقبل. هذا يعني أن الأسعار التي بنيت عليها الموازنات تؤثر بشكل غير مباشر في أسعار النفط في المستقبل.
الخلاصة
خلاصة الأمر أنه إذا كان هناك أثر للأسعار التي بنيت عليها الموازنات في أسواق النفط العالمية، فإنه يجب التركيز على السعر الذي تبنته السعودية فقط وتجاهل الباقي، لأنها الدولة الوحيدة التي تستطيع التحكم في الإنتاج والدفاع عن هذا السعر. وبغض النظر عن وجود هذا الأثر أم لا، فإن لأسعار النفط التي بنيت عليها الموازنات أثر غير مباشر في المدى البعيد يؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط بسبب انخفاض الإنفاق على مشاريع التنقيب والإنتاج والصيانة.