الأمن الفكري كيف يكون؟
في حديث ذي شجون مع ثلة من الأصحاب انجر النقاش إلى ما سيتم تداوله في مؤتمر الأمن الفكري الذي سينعقد خلال الفترة من 17 إلى 19 من الشهر الجاري. وتباينت التصورات حول مضمون الأمن الفكري بين المتناقشين وذهب بعضهم مذهب الوجل من أن يتبلور خلال المؤتمر توجه يقود إلى تأطير فكر مقبول وفكر مرفوض، مما يؤدي إلى إقصائية تعيدنا إلى المربع الأول من المعاناة مع التطرف.
كان النقاش مثيراً بما فيه من تحليل واستنتاجات وخلافات في المفهوم الأمر الذي حثني عندما عدت للمنزل للبحث واستيعاب الفكرة الأساسية من إطلاق هذا المصطلح وتشرب الفِكر التي تناولت الموضوع بحثاً أو كتابة، فوجدت كثيرا من التباين في المفهوم وإرهاصا في تلبيس المفهوم عباءة دينية وسطية التوجه، واستجلابا لمعان تحث على تحمل الخلاف واحترام وجهات نظر الأضداد، إلا أن الباعث الحقيقي لإطلاق ذلك المصطلح والسعي لتحقيقه لم ينل كثير حظ من الإبراز والتبيين، فالذي أراه أن الإشكال ليس في تطرف الفكر ذاته بقدر ما كان بطريقة التعبير عنه والمسعى للتغيير استتباعاً له والذي نحى إلى العنف والجبر والقسر وتبلور في صورة قتل وتفجير واستحلال للدماء. الفكر في حد ذاته ممارسة تجميعية لمفاهيم تتوحد وتتضافر في صورة رؤيا أو توجه، وبقدر ما يتشبث المتعلق بها بقدر ما يناوئ الفِكر الأخرى وهو ما يعبر عنه بالتطرف، والتطرف أو الاستقطاب في الفكر لازم طبيعي للحراك الفكري وبه تتحدد الوسطية التي ينشدها الغالبية، لذا لا ضير ولا مندوحة من وجود بعض التطرف، ولكن المشكلة العظيمة إذا تبنى المتطرف أدوات قسر للناس في سبيل إيصال مفهومه لهم.
إن ما يجب أن تنصب عليه الجهود هو إزالة الرغبة والنية في جبر الناس على فكرة استولت على لباب صاحبها، وبات لا ينشد في الحياة سوى تحقيق ذلك، وأزعم أن أول ما يجب أن يستهدف في سبيل نزع روح العنف لدى ملتزمي الفكر المتطرف، هو منحهم حرية التعبير عن ذلك التطرف بصورة تزيل أي مبرر في أذهانهم إلى سلوك التغيير بالقوة، ولا يكون ذلك إلا بضمان حرية التفكير والتعبير - وهنا أستدرك أن يساء فهمي - فأضيف "ضمن أطر الإجماع اللازم لحفظ الدين وحقوق الناس"، إن صيانة الحرية لأطياف الفكر حيث تبرز وتتلون أمام الناس سيثري تلك الفِكر وسيصرف ملتزميها إلى البحث والاستقصاء من أجل تمكين مفاهيمهم من عقول الناس، الأمر الذي لا يبتعد بهم عن القصد الجبري لحجة غياب القدرة إلى ما دون ذلك فقط بل يتعدى ذلك إلى توليهم مراجعة فكرهم وتمحيصه نتيجة للعملية الفكرية للبحث والاستقصاء فتسقط خلال ذلك القناعات الهشة والروئ الساذجة، ومع قناعتي أن ذلك السبيل ممهد لتحقيق الأمن الفكري، ألا أن الحرية الفكرية ربما لا تكفي لتحقيق الوقاية من عنف جبر الفكر فلابد من تشريع يجرم العنف بأي شكل كان ويعاقب بما يليق كل جريمة، فالعنف أغلظه ما يكون مدمرا للأبدان والأملاك وأدناه ما يجرح النفوس ويسلبها الشعور بالأمان فالتحريض جريمة عنف، والقذف جريمة عنف، والبهتان جريمة عنف والوشاية جريمة عنف.
إن منهجية الأمن الفكري لابد أن تنطلق من مفهوم حماية الفكر وتيسير ممارساته، هذه الحماية ستؤدي إلى إثراء الساحة الثقافية بتوجهات فكرية متعددة والتي بتماحكها ستثري قدرة الفرد في المجتمع على تقبلها ونقدها ورد ما لا يتسق ومنهاجه، وبذلك يكون هو القادر على إسقاط المفاهيم التي لا تروق له، وعلى عكس ذلك عندما يسود فكر واحد غالب قامع سواه سيجبر الناس على الانقياد له وليس القناعة به فيثمر عقولا هشة غير قادرة على التمييز وغير قادرة على الانعتاق من الضرر الذي يجره، هذا إلى جانب أن التطويع الجبري لفكر معين يولد النفاق والنفاق يولد الخيانة والخيانة تولد الحقد والكراهية. إن التاريخ علمنا أن تسلط الفكر الأوحد لم يعمر أمما بل هو ما أدى إلى اضمحلال إمبراطوريات وكيانات لا تغيب عنها الشمس. وما ذلك إلا لأن الفكر الأوحد بتسلطه على العقول يثمر تعصباً انتمائيا يتبلور في صورة سياج فكري لا يقبل مفاهيم جديدة إلا من منطلق العدائية. ويستقر على حال تسلبه الحجج العقلية التي لا تتحقق إلا بممارسة الجدال ومقارعة المفاهيم الأخرى عقلياً، وبالتالي ينقاد معتقدوه إلى العنف والجبر في سبيل حماية مفاهيمهم التي لم يستطيعوا حمايتها بقدراتهم العقلية.
إن للأمن الفكري دور آخر وهو استخدام الفكر في تعزيز الأمن، فالأمن هو ضد التعدي والتعدي لا يكون إلا بحوافز يبررها مفهوم أو مفاهيم منشأها قيم اجتماعية ترسخت في ذهنية المتعدي، فالمجرم القاتل يبرر تعديه بالانتقام والثأر وهي قيم اجتماعية لها نصيب من القبول في الخلفية العقلية للمجتمع والمتعدي بالنصب والاحتيال وسلب أموال الناس بالكذب والبهتان يبرر ذلك بالشطارة التجارية والمجازفة وهي أيضا قيم لها قبول اجتماعي وكذلك يجد المتعدي على زوجته وأبنائه بالتعنيف والإيذاء البدني والنفسي ما يبرر ذلك من قوامة وحق في التربية والتقويم، ولا يمكن تغيير المفاهيم الاجتماعية التي استقرت في الخلفية الذهنية بمجرد سن قوانين وأنظمة تجرمها بل لابد من الغوص في عمق تلك الذهنية التاريخية للمجتمع وإحلال قيم تقيد تلك القيم أو تزيلها، فمعاني الحمية القبلية والثأر الناتجة عن سوء تفسير مقولات مثل "انصر أخاك ظالما أو مظلوما" و"الظلم من شيم النفوس فمن تجد ذا عفة فلعله لا يظلمِ" هذه القوالب الفكرية الجاهزة في حاجة إلى مراجعة وإعادة تبيين لإحلال معان جديدة فيها. صحيح أن للجريمة دوافع ليست بالضرورة فـكرية، ولكن أكثر الجرائم إيلاماً هي تلك التي يكون باعثها قيمة فكرية.
إن مفهوم الأمن الفكري لم يأت من فراغ، بل أتى لحاجة وحاجة ماسة، والفرصة اليوم ذهبية لتوسيع مضمونه، حيث يتناول تلك الجوانب التي نحذر طرقها لاعتقادنا بقدسيتها، والواجب أن يكون لنا جرأة في مناقشتها فكثير منها ركام توالى وتأسست عليه ممارسات لا يمكن لنا أن نتناولها بالدرس والتحليل دون حرث ذلك الركام واستكناه أصله ومدى قابلية البناء عليه. بهذا يستطيع الفكر أن يأمن وبه نحقق أمننا كأمة وكأفراد.