تحفيز اقتصادنا

في ظل الأزمة العالمية انكبت الدول ترتب لأفضل الإجراءات الكفيلة بتحفيز اقتصاداتها. وغدا واضحا أنه لا يمكن أن يكون اقتصادنا بمعزل عما يمر به العالم من أزمة مالية حادة وركود اقتصادي عميق. ومع التسليم باختلاف حدة الأزمة من بلد إلى آخر، إلا أنه لم يكن مناسبا الادعاء في بداية الأزمة أن اقتصادنا بعيد عنها. إذ لا يمكن تصور ذلك لأن اقتصادنا مفتوح بل إنه كثير الاعتماد على الخارج استيرادا وتصديرا. ولا أعرف لماذا يحلو للبعض تصوير اقتصادنا بأنه محصن ضد التقلبات، حتى أصبح يصعب علينا مصارحة أنفسنا بالحقائق التي تواجهنا؟ مع أن في المصارحة فوائد جمة، فهي تشعر الناس والمؤسسات مبكرا بمسؤولياتهم وتدفعهم لتبني القرارات الصحيحة.
ويوما بعد آخر أصبحنا نشعر بأثر الأزمة في مختلف أنشطتنا الاقتصادية. فقد تراجعت أسعار النفط وعوائده، الأمر الذي انعكس على موجودات مؤسسة النقد التي سجلت رابع انخفاض شهري على التوالي حتى نهاية آذار (مارس) الماضي. كما تأثرت صناعة البتروكيماويات بشدة جراء تدهور أسعارها وتراجع الطلب العالمي عليها. وداخليا تأثرت بعض الأنشطة المعتمدة على الطلب الداخلي، كنشاط المقاولات والعقار نتيجة لتحفظ المصارف في توفير التمويل اللازم لها. حيث اتخذت المصارف إجراءات مشددة فيما يتعلق بتمويل المقاولين المحليين. فرفعت معدل تكلفة التمويل من 8 في المائة إلى 12 في المائة، إلى جانب رفعها نسبة ضمانات المشاريع من 10 في المائة إلى 40 في المائة. من ناحية أخرى، تواجه بعض شركات التطوير العمراني صعوبات في الحصول على التمويل اللازم لتنفيذ مشاريعها. ففي الأيام القليلة الفائتة لاحظنا انفصال العلاقة التمويلية بين شركة تطوير عمراني ضخمة في مكة المكرمة وإحدى مؤسسات التمويل الاستثماري. ومن ناحية ثالثة، تواجه بعض مصانع الحديد مشكلات تمويلية وتسويقية نتيجة تكاليف سابقة عالية مع انخفاض حالي في الأسعار. كما تجادل مع شركات الأسمنت بضرورة سماح وزارة التجارة لها بتصدير الفائض من منتجاتها للخارج بعد تزايد المخزون لديها.
مؤسسة النقد أكدت على أن السيولة ‏في القطاع المصرفي السعودي كافية ومتوافرة! وأن تكلفة الاقتراض الآن معقولة بفضل قرارات السياسة النقدية التي تبنتها المؤسسة أخيرا.‏ والبيانات التي أعلنتها المؤسسة الأسبوع الماضي توضح ارتفاع عرض النقود بمفهومه الأوسع في نهاية آذار (مارس) 2009 بمقدار 16 في المائة مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. وهو يعني استمرار نمو ‏السيولة ‏‏المحلية التي تخطيت حاجز تريليون ريال. وهذا يفترض أن يعمل على تحفيز النمو الاقتصادي في البلد ودفع المصارف نحو استئناف تمويلاتها بشكل أكبر للمشاريع الإنتاجية.‏ لكن المصارف في الواقع ما زالت متحفظة وبعضها أعاد السيولة الفائضة لمؤسسة النقد!
ومن الواضح أن المشكلة ليست في قلة السيولة لدى المصارف وإنما في إحجامها عن التمويل. لذا غدا توافر السيولة شكليا! فالسيولة القابعة في مخازن المصارف والتي لا تخدم طلبات التمويل، يكون وجودها كعدمها من حيث تأثيرها في تحفيز النشاط الاقتصادي. المصارف مترددة أو متخوفة من استخدامها بسبب زيادة مخاطر التمويل في ظل الركود. وحتى إذا أبدت المصارف رغبتها في التمويل فإن تكاليفها عالية وشروطها قاسية، وهذا وذاك لا يساعد على تحريك الاقتصاد. ولذلك فبعض الأنشطة الحيوية في حاجة إلى دعم الحكومة على الأقل بتقديم ضمانات عنها للمصارف.
لا يكفي لمواجهة الأزمة الراهنة أن نقتصر على حزمة إجراءات نقدية ومالية محدودة، بل لابد لنا من فكر جريء وإجراءات تنظيمية متطورة وقرارات سريعة. فالفجوة الهائلة بين الطلب والعرض في قطاع الإسكان - على سبيل المثال - تتطلب فورة فكرية. وطبيعة التمويل اللازم له من حيث حجمه ومدته ودرجة مخاطره، ربما تشير إلى حاجتنا اليوم إلى قيام مصرف إسكان يختص بتمويل هذا النشاط. كذلك من المهم تطوير البيئة التنظيمية والقانونية لهذا النشاط. ومن ذلك، حل معضلة استيلاء أفراد نافذين على مساحات شاسعة من الأراضي القريبة من العمران. والإسراع في إصدار نظام الرهن العقاري حماية لحقوق الممولين، وجذبا للاستثمارات في هذا النشاط، وتشجيعا على تطوير وترويج صيغ تمويل مناسبة، تمكن الناس من تملك منازلهم بأقساط معادلة لقيمة الإيجارات التي يدفعونها، كما يجرى في كل دول العالم.
المال هو عصب الحياة، والتمويل هو غذاء الأنشطة، والمصارف هي قنوات هذا الغذاء، والتنظيمات الجيدة هي أداة تسهيل ممارسة النشاطات، والحكومات ملاذ الشركات والناس وبالذات في الأزمات، والزمن عامل مهم، سيحسب لنا أو علينا!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي