ما وظيفة الدولة الإساسية؟
يعد الأمن وظيفة الدولة الأساسية، ويمكن تحقيقها بصورتين مختلفتين، عرضية وجذرية، كما في معالجة الملاريا، تخفيض الحرارة وقتل البلاسمويدات، مسببة المرض، أي إما بروح العدالة، وإما بسوط الطغيان، بالأول أي العدل يتوافر الأمن وتتدفق الحريات، وبالثاني يلجم الناس بالرعب فيسكن المجتمع سكون المقابر، فتقوم منه أشباح الإرهاب تنتقم مثل دراكولا الليلي!
فهذه هي فلسفة إبراهيم عن الأمن المتولد من العدل؛ "الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون". و"تلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه".
يجب أن نعترف بأن العلوم الإنسانية المساعدة من علم نفس واجتماع وفلسفة وتاريخ وفلسفة علوم وبيولوجيا وفيزياء ذرية وكوسمولوجيا وأنثروبولوجيا وكوانتوم ونسبية، هي التي كانت أدواتي لتفكيك النصوص، كما ندخل تماما في جراحة الأوعية الدموية، ليس بأدوات الزهراوي، بل بملقط ساتنسكي وكولي ودبغي، واستخدام الهيبارين والجرافت الصناعي وخيطان الجورتكس وقثطرة فوجارتي.
قد تسألوني وكيف حصل هذا؟ وجوابي من الآية 112 من سورة النحل!
فهذه الآية تضرب المثل عن انحراف اجتماعي مع بداية ونتيجة لهذا التحول. تقول الآية إن مجتمعا كان يتمتع بوضع مثالي، من ثلاثة أساسيات تضم الأمن والطمأنينة ورغد العيش، فانحرف (كفر) تماما كما حصل في انهيار سد مأرب بنفس التعبير، "ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور"! "فصب الله عليهم سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد"!
وهنا نرى أن أعظم آفتين تصيبان الروح الإنسانية هما الخوف والحزن، وأكبر آفتين يصاب بهما مجتمع هما الانهيار الاقتصادي وفقدان الأمن.
وهنا نرى تداخلاً واضحا بين مرض الفرد والجماعة، فالخوف والقلق هو مما سيأتي، والحزن هو على ما مرّ وفات، "كيلا تأسوا على ما فاتكم". أي التجمد في مربعي الزمن القادم والماضي.. إذن لنتعلم درسا أن نعيش اللحظة!
هل يمكن أن نعيش اللحظة؟
لنستعرض الآية بهدوء مستخدمين العلوم الإنسانية المساعدة.
"وضرب الله مثلا (قرية) كانت: آمنة ـ مطمئنة ـ يأتيها (رزقها رغدا) من كل مكان؛ فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون".
والجدل الإنساني هنا عجيب، فالبداية أو صفة أهل ذلك المجتمع وهو هنا على طريقة القرآن أنه يدخل على المثل فيحذف منه الزمان والمكان والأشخاص، ويدخله معمل المطلق، محولا إياه قانونا إنسانيا، ينطبق على كل مجتمع، مع آليات التحول وأسبابها، والقرآن يربط بين هدفين أن هذا الانحراف أو المرض الذي أصاب المجتمع كان (صناعة) بشرية، كما هو الحال في الأنظمة التوتاليتارية الديكتاتورية؛ فالبشر يصنعون بأيديهم الأصنام الحية والميتة، ويعبدونها بالطقوس والكهنة.
عندها يدخل المجتمع ليل التاريخ، مصابا بأفظع مرضين؛ الانهيار الاقتصادي فيفتقر ويجوع، وفقدان الأمن الاجتماعي فيحكم بقانون الطوارئ، وعسكرة المجتمع، واعتقال الإنسان في أي لحظة، فلا تبقى أية ضمانة لأي شيء وإنسان، في أي مكان وزمان.
هنا يصبح المجتمع وثنيا ولو مارس الطقوس، يعبد القوة كمحور مركزي، مقابل المجتمع التوحيدي مجتمع الفكرة.
فهنا نرى تقابلا عجيبا بين مجتمع (القوة) الوثني يعبدون ما ينحتون، ومجتمع (الفكرة) التوحيدي، في خمس حلقات تمسك تلابيبه وتكسر الإنسان تحت ضغطها، أو ينجو فيعبد الرحمن كما فر أصحاب الكهف، ينشر لهم الرحمن من فضله ويهئ لهم مرفقا.
تأمل التتابع في السلسلة : القوة ـ الإكراه ـ الخوف ـ الطاعة ـ الكراهية ـ القوة على شكل حلقة ملعونة مغلقة أصلها في الجحيم وطلعها كأنه رؤوس الشياطين. أي أن مجتمع الإكراه والكراهية هو المجتمع الوثني بمحور القوة.
مقابل مجتمع التوحيد : فكرة ـ قناعة وإيمان ـ طاعة في الطاعة ومعصية في المعصية ـ انتماء ودفاع عن المجتمع ـ تصحيح الفكرة برفض الطاعة وليس القتل.. وبذلك يحكم رتاج هذه الحلقة النورانية من مجتمع ليس فيه مستكبرون ومستضعفون وآلهة وعبيد وفقر ومافيات.