ما دور الشركات دولية النشاط في قلب كيان الاقتصاد العالمي وتغيير قواعد اللعبة؟
يؤمن أنصار الفكر الرأسمالي أن الكل يساوي مجموع الأجزاء، فبافتراض أن أفراد المجتمع عشرة أفراد، فبتحقق النجاح لهؤلاء الأفراد يتحقق النجاح للمجموع، أي الاقتصاد ككل، ومن هذا المنطلق تمت المناداة بالحرية والملكية الخاصة، ولكن الأحداث التاريخية، بل والتطورات العالمية الراهنة تقول بعكس هذا، إذ ليس بالضرورة أن يترتب على تحقق النفع للجزء تحقق المصلحة للمجتمع ككل.
أعتذر عن هذه الفلسفة الاقتصادية، ولكنها مقدمة ضرورية لبيان كيف أن مصلحة الاقتصاد الكلي قد تتأثر بالسلب نتيجة نشاط الأجزاء. وهذه الحقيقة أكد عليها أخيرا بعض الاقتصاديين الأمريكيين، حيث انتهوا إلى أن الأيام أثبتت أنه ليس بالضرورة أن تتطابق مصلحة الاقتصاد الكلي الأمريكي مع مصلحة الشركات الدولية الأمريكية، بدليل قيام الشركات الأمريكية، وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، بنقل أنشطتها من الولايات المتحدة إلى الكثير من الدول النامية، خاصة دول شرق وجنوب شرق آسيا، وتحديداً الصين، فلو كان الكل يساوي مجموع الأجزاء لتلاقت مصالح الاقتصاد الكلي الأمريكي مع مصالح تلك الشركات. وما قيل بالنسبة للولايات المتحدة ينطبق تماماً على باقي دول أوروبا الغربية واليابان.
وبصفتي باحث معني بالشركات دولية النشاط، حيث كانت موضوعاً لرسالتي للدكتوراه عام 1997 أرى أنها سنة الله في الكون، فبقاء الحال من المحال، فالتغير والتقلب والتحول هي سنة كل شيء خلقه المولى عز وجل، ولا يشكل الاقتصاد استثناء في هذا الخصوص.
في الحقيقة هناك نظرية اقتصادية قال بها اقتصادي أمريكي وهو رايموند فيرنون عام 1966م وعنوانها "دورة حياة المنتجProduct Life Cycle Theory " أي أن المنتج ـ خاصة المنتج الصناعي ـ يمر بدورة حياة تبدأ في الدول المتقدمة وتنتهي في الدول النامية، خاصة عندما يصبح منتجاً نمطياً ويعاني حدة المنافسة في البلد الأم. لن ندخل في تفاصيل هذه النظرية أو الانتقادات الموجهة لها. المهم أن هذه النظرية وثيقة الصلة بما يجري على أرض الواقع اليوم.
إن أي محلل اقتصادي متعمق كان عليه أن يدرك أن العالم بصدد عملية تحول تاريخي، تتغير على أساسها موازين القوى، بحيث لا يبقى الغني غنياً والفقير فقيراً أو المتقدم متقدماً والمتخلف متخلفاً، فجمال ومتعة الحياة في التغير والتحول، ليبقى هناك أمل لكل صاحب حلم، فمن جد وجد.
كانت الشركات متعدية (أو متعددة الجنسية أو الشركات دولية النشاط) بمثابة الأداة لإنجاز هذا الهدف (وهو عملية التحول التاريخي في الاقتصاد العالمي) ويشهد على ذلك أرقام تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال العقود الأربعة الماضية فهي أرقام خيالية، ولا يمكن أن تمر علينا مرور الكرام، فقد صعدت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر (الذي تتولاه في الغالب الشركات دولية النشاط) من نحو 27 مليار دولار في المتوسط أواخر السبعينيات إلى أكثر من 1.8 تريليون دولار بنهاية 2007م!! وذلك كما هو موضح في الشكل (1). كم هو معدل النمو؟! بالطبع فاق معدلات نمو الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية... إلخ.
الغريب في الأمر أن الحصة الأكبر من تلك التدفقات كانت من نصيب دول شرق وجنوب شرق آسيا، ودول ما سمي بالنمور الآسيوية، فكما هو موضح بالشكل أدناه يتضح أننا بصدد عملية تحول تاريخي تستوجب تحولا مماثلا في موازين القوى. فبعد أن كان أغلب (أكثر من 90 في المائة) تدفقات الاستثمار المباشر خلال السبعينيات ومطلع الثمانينيات تتم بين الدول المتقدمة، تغير الوضع منذ ذلك الحين، وبدأت حصة الدول النامية في الصعود من أقل من 5 في المائة إلى أكثر من 40 في المائة من إجمالي التدفقات بنهاية 2007!! وهذه مسألة لها دلالات كثيرة يصعب حصرها في مقال.
وإذا أخذنا الصين كمثال، تؤكد بيانات منظمة الأونكتاد أن متوسط تدفقات الاستثمار المباشر للصين خلال التسعينيات تعدى 50 مليار دولار سنوياً، بل إن حصتها من التدفقات المباشرة عام 2007 بلغت 83.5 مليار دولار، مقارنة بنحو 72.7 مليار دولار عام 2006. هذه الاستثمارات هي استثمارات مباشرة، أي في شكل مشاريع فعلية وليس استثماراً جباناً في أسواق المال، وهنا يكمن الفرق، لهذا صمدت الصين في وجه الأزمة الراهنة، بل تعد العدة لتسطير رحلة جديدة مع العالم.
شكل (1) تطور تدفقات الاستثمار العالمي بحسب المناطق خلال الفترة من 1980 وحتى نهاية 2007م (بالمليار دولار)
المصدر: تقرير الاستثمار العالمي 2008م، منظمة الأونكتاد.
الأكثر من هذا، هو أن الاستثمار المباشر قد يكون في شكل عملية دمج واستحواذ Merger & Acquisitions أو في شكل مشاريع جديدة Greenfield وأغلب الاستثمارات فيما بين الدول المتقدمة هي في شكل دمج واستحواذ (أي ليست هناك إضافة حقيقية)، في حين أن أغلب تدفقات الاستثمار للدول النامية هي في شكل مشاريع جديدة، أي قيام شركة أمريكية أو بريطانية بنقل نشاطها إلى بلد كالصين أو ماليزيا وليس الاستحواذ على شركة صينية قائمة، وهذا أيضاً أمر بالغ الدلالة.
ترتب على تلك التدفقات نقل عمليات وأنشطة الإنتاج الحقيقي من الدول المتقدمة على الدول النامية (جدول 1)، بحيث أصبح قطاع الصناعة في بلد كالصين يشكل نحو 50 في المائة من الناتج المحلي الصيني مقارنة بالقطاع الصناعي الأمريكي، الذي تراجعت حصته من الناتج الأمريكي من 33 في المائة إلى ما دون 20 في المائة!! إنها عملية تحول تاريخي لمن أراد أن يدرك الحقائق.
جدول (1) توزيع الناتج المحلي بحسب القطاعات (الولايات المتحدة مقارنة بعدد من الدول %)
الدولة
الزراعة
الصناعة
الخدمات
الولايات المتحدة
1.2
19.6
79.2
العالم
4
32
64
الاتحاد الأوروبي
2
26.8
71.1
اليابان
1.4
26.4
72.1
كندا
2
28.4
69.6
الصين
10.6
49.2
40.2
Source: CIA World Factbook 2008, web; https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/index.html
ما محصلة تلك العملية؟ هي انتقال أنشطة الإنتاج السلعي من الدول المتقدمة إلى الدول النامية، بحيث تم تفريغ اقتصادات الدول المتقدمة وتحولها إلى اقتصادات خدمية، بدليل أن قطاع الخدمات الأمريكي بات يستحوذ على نحو 80 في المائة من الناتج المحلي الأمريكي!! وفي ظل تراجع حصة قطاعات الإنتاج السلعي لمصلحة بلدان كالصين، كان من الطبيعي أن يتم تفريغ الاقتصاد الأمريكي وتضييق قنوات الاستثمار الحقيقي أمام مختلف المستثمرين، لهذا رأينا توجه محموم نحو قطاع العقار، فقطاعات الإنتاج السلعي الحقيقي باتت شبه غائبة، لهذا حدث ما حدث وتضخم البالون المالي الذي ما لبث أن انفجر في وجه الجميع وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.
في المقابل، أصبحت اليد العليا لبلد كالصين، بل باتت أكبر الدائنين للولايات المتحدة (أكثر من تريليوني دولار) والشكر كل الشكر للشركات دولية النشاط. وفي ضوء عرضنا أعلاه، كان من المنطقي أن يتضخم العجز التجاري الأمريكي مع العالم، خاصة مع الصين إلى أن بلغ نحو تريليون دولار بنهاية 2008.
وفي دلالة واضحة على حجم ودور الشركات دولية النشاط في تغيير قواعد اللعبة، وكما أوضح تقرير الاستثمار العالمي الصادر عن الأونكتاد، تبين أن نحو 60 في المائة من الصادرات الصناعية الصينية هي من إنتاج الشركات دولية النشاط!! النسبة نفسها تقريباً شهدتها هونج كونج وسنغافورة وماليزيا... إلخ.
في ضوء تلك التحولات، بدأت كثير من الدول النامية ـ خاصة في آسيا ـ لعب دور جديد، ليست كمتلق للاستثمار المباشر، بل كمصدر للاستثمار وأصبحت بلدان كالصين وماليزيا وهونج كونج وتايوان من أكبر اللاعبين في مجال الاستثمار في الدول الأخرى، بل الاستثمار في الدول المتقدمة.
كان انتقال الشركات دولية النشاط للاستثمار في البلدان النامية، إما بدافع الحفاظ على حصتها من أسواق تلك الدول وإما الاستفادة من عناصر الإنتاج منخفضة التكلفة، خاصة عنصر العمل، بمثابة نقطة الانطلاق لعملية التحول التاريخي ليبدأ العالم رحلة جديدة بقوى صاعدة جديدة، فالتجربة أثبتت أنه ليس بالضرورة أن يساوي الكل مجموع الأجزاء، فرغم نجاحات الشركات الأمريكية وتوسعها، إلا أنها أفرغت الاقتصاد الأم من مضمونه، وجعلته اقتصاد مستورد صرف للسلع، ونقلت فرص العمل للدول النامية، ولم تبق للبلد الأم سوى اقتصاد خدمي خاو، لعب فيه المقامرون لعبتهم، إلى أن وقعت الكارثة.
لقد تغيرت قواعد اللعبة وتغير اللاعبون، لهذا لا بد أن يكون هناك نظام عالمي يعكس هذا الواقع الجديد، نظام يعكس وزن وتأثير بلدان كالصين وباقي دول شرق آسيا سواء من خلال عملية اتخاذ القرار الدولي في مؤسسات كصندوق النقد أو البنك الدولي، فهذه سنة الله في كونه، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولن تجد لسنة الله تحويلاً. وتقبلوا خالص تحياتي.