التلقيح الاصطناعي وتأجير الأرحام: أساليبه ومشروعيته (3)

استكمالاً لما سبق، نود الإشارة إلى أنه إذا كان المجمع الفقهي الإسلامي، التابع لرابطة العالم الإسلامي، قد تراجع عن موافقته على الأسلوب الذي تؤخذ فيه النطفة والبويضة من زوجين، وبعد تلقيحهما في وعاء الاختبار تزرع اللقيحة في رحم الزوجة الأخرى للزوج نفسه، إلا أن الشيخ عبد الله بن سليمان المنيع، عضو هيئة كبار العلماء، أجاز في مقاله المنشور في جريدة "الوطن" بتاريخ 29/4/1430هـ الموافق 25/4/2009 قيام المرأة بمنح امرأة أخرى بويضة لتلقح بمني زوجها إذا كانت المرأة المهدى إليها والمرأة المهدية لتلك البويضة زوجتين للرجل الذي سيتم تلقيح هذه البويضة بمنيه.
ومن ناحية أخرى، فإن الدكتور عبد الحميد عثمان محمد، الأستاذ في كلية الحقوق في جامعة طنطا المصرية لا يرى أي مانع شرعي من تلقيح بويضة امرأة من مني زوجها وزرعها في امرأة أخرى ليست زوجته وفق ضوابط محددة شرحها بالتفصيل في كتابه (أحكام الأم البديلة - الرحم الظئر - بين الشريعة والقانون)، ونستعرض هنا في عجالة أبرز ملامح وجهة نظره في هذا الشأن على النحو التالي:
أولاً: عرف الأم البديلة بأنها (المرأة التي تقبل شغل رحمها – بمقابل أو بدونه – بحمل ناشئ عن نطفة إمشاج مخصبة صناعياً لزوجين استحال عليهما الإنجاب لفساد رحم الزوجة). وأطلق على الأم البديلة مصطلحاً آخر هو (الرحم الظئر) قياساً على ظئر الأم المرضعة.
ثانياً: عرف النطفة الأمشاج بأنها (بويضة الزوجة الملقحة بمني زوجها المخصبة طبياً في الأنبوب).
ثالثاً: أطلق اسم (عقد الاجتنان) على الاتفاق الذي تتعهد الأم البديلة بمقتضاه بشغل رحمها – بمقابل أو بدونه – بحمل جنين مخلق من النطفة الأمشاج للمستجن لهما – أي الزوجين – ويترتب عليه التزام كل طرف بما وجب عليه للآخر. والسبب في تسميته هذا الاتفاق بأنه (عقد الاجتنان) هو أن كلمة (الاجتنان) تعني في اللغة الاستتار عن العين المجردة, وتعني كمصطلح بالمعنى العام (استتار الجنين في رحم الأنثى) وتعني بالمعنى الخاص (حمل المرأة الأيم جنيناً لحساب الغير).
رابعاً: يرى الدكتور عبد الحميد عثمان محمد أن عقد الاجتنان جائز شرعاً في حالة توافر الشروط الآتية:
1- الشروط العامة:
أ - أن يكون الرحم الظئر هو الوسيلة الوحيدة أمام المستجن لهما للتمتع بالبنوة.
ب - أن يتوافر الرضا التام من كافة أطراف العلاقة التعاقدية (الزوج والزوجة والأم البديلة).
2 ـ الشروط المشتركة بين الزوجين:
أ - البناء بالزوجة في سن الإنجاب أي بعد سن الحيض وقبل بلوغها العمر الذي تكون احتمالات الحمل فيه نادرة، وهو سن اليأس الذي يلحق المرأة بعد سن 45 عاماً من عمرها.
ب - توافر قيام العلاقة الزوجية في حالتين:
الأولى: استجلاب الماءين وامتزاجهما معاً في الأنبوب على وجه تنتج عنه النطفة الأمشاج.
الثانية: استدخال النطفة الأمشاج إلى رحم الأم البديلة.
ج – انقضاء فترة زمنية على الدخول الحقيقي، بمعنى أن تنقضي فترة زمنية على المعاشرة الزوجية، واستمتاع كل منهما بالآخر، على الوجه الذي يمكن معه الحمل والإنجاب، وأن يتوافر في المعاشرة صفة الاطراد والاستمرار خلال هذه المدة، ويرجع في أمر تحديد مدة المعاشرة التي يثبت من خلالها فساد الرحم على سبيل التأييد إلى الخبرة الطبية.
د – انعدام وجود الولد الحي للمستجن لهما بالكلية، فلا يجوز اللجوء إلى الرحم الظئر إذا كان كل منهما قد حصل على الولد، حتى لو كان من اقتران أحدهما بغير الآخر (زواج سابق). أما إذا كان قد استقل أحدهما بذلك دون الآخر، فإنه يجوز لهما التمتع بالبنوة عن طريق الأم البديلة.
هـ - توافر الرغبة الملحة والجادة في التمتع بالبنوة، وأن الزوجين قد استنفدا كل الأسباب الممكنة والمتاحة من الحصول على الولد بالطريق العادي، وذلك من فحوص طبية مختلفة معروفة في مجال الطب التشخيصي والعلاجي وأن يكون لديهما عاطفة جياشة للأبوة والبنوة.
و – إبداء الرغبة في قيام امرأة أخرى بالحمل لحسابهما، بمعنى أنه يجب أن يصدر عن كليهما التعبير الصريح عن إرادة بالرغبة في قيام امرأة أخرى (الأم البديلة) بالحمل لحسابهما، مع تعهدهما على سبيل التضامن بتحمل كافة الالتزامات الناشئة عنه.
3 ـ الشروط الخاصة بالزوجة:
أ – انعدام الرحم أو عجزه عن الحمل على وجه شبه مؤبد.
ب – سلامة المبيض وأدائه بصورة منتظمة.

4ـ الشروط الخاصة بالزوج:
أ – خلوه من العيوب التناسلية.
ب – كفاءة مائه على التخصيب.

5ـ الشروط الخاصة بالأم البديلة:
أ – ألا تكون حرثا لرجل آخر، أي ألا تكون زوجة أو ملك يمين لرجل آخر، فالمرأة التي تكون حرثا لآخر، ليس لها شغل رحمها تحمل من غير مالك متعتها، تحرزاً من وقوع اختلاط للأنساب، فمن المحتمل أن يستقر أو لا يستقر الحمل لحساب الغير في الرحم، فإن استقر فقد يدعيه مالك المتعة مما يثير حوله المنازعة، وإن لم يستقر وحملت من مالك المتعة واستلحق بالمستجن لهما فقد نسب إليهما من ليس منهما. ولا مناص من توافر هذا الشرط منذ استدخال النطفة الأمشاج للمستجن لهما في الرحم الظئر حتى خروج الجنين طفلاً، أي منذ بدء شغل الرحم حتى براءته، ويترتب على ذلك أن الأم البديلة لا تكون محلاً لعقد النكاح من رجل آخر طالما أن الرحم مشغول بهذا الحمل لأنها تأخذ في ذلك حكم المعتدة بالحمل الوارد في قوله تعالى (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن...). ويستثنى من هذا الشرط ما يلي:
1- إذا كانت الأم البديلة حرثاً لزوج صاحبة البويضة المخصبة بمنيه، بأن يكون مالك متعة الأم بالحمل هو مالك متعة الأم البيولوجية، فقد تكونان زوجتين لرجل واحد أو الأولى ملك يمين لزوج الثانية.
2 ـ زواج المستجن له (الزوج) بالأم البديلة خلال شغل رحمها بحمل ناتج عن بويضة زوجته الأولى الملقحة بمنيه.
ب - ألا تكون معتدة من حرث، سواء كان الحرث لزوج صاحبة البويضة، أو كان لرجل آخر، ففي ذلك يستويان، حتى لو كانت معتدة من طلاق رجعي، لأنه وإن كان له عليه حق الإرجاع، إلا أن قيامها بدور الرحم الظئر ليس فيها ما يفيد العدول عن الطلاق، إلا إذا أفصح الزوج (المستجن له) عن ذلك صراحة.
ج – أن تكون حالتها السنية والصحية تسمح بالحمل.
د – إعلام وليها، وذلك قبل إبرام العقد فيما بين هذه المرأة وبين المستجن لهما، حتى يكون هذا الولي على بينة من الأمر.
خامساً: يستبعد المؤلف شبهة الزنا عن هذا الأسلوب من التلقيح الاصطناعي لأن الزنا المعتبر شرعاً وقانوناً والموجب للحد أو للعقوبة هو فعل الوطء الناتج من شهوة، وأن الرحم الظئر لا وطء فيه ولا شهوة وأن ما يحدث في هذه الحالة هو استجلاب الحيوان المنوي من الزوج، واستخراج البويضة من زوجته، ويتم امتزاجهما داخل الأنبوب، وبعد اتحاد شقي الخلية التناسلية ليكونا خلية واحدة (النطفة الأمشاج)، تستدخل البويضة الملقحة إلى داخل رحم امرأة أخرى (الأم البديلة) لتتم بداخله الأطوار الجنينية حتى الميلاد.
سادساً: أوضح المؤلف أوجه الاتفاق والاختلاف بين عقد الاجتنان وعقود الزواج والاسترضاع والإيجار والوديعة والعمل وغيرها من العقود المشابهة، ووجد أن عقد الاجتنان وعقد الإرضاع أقرب العقود إلى بعضهما لاشتراكهما في الخصائص والجوهر، فالأم الرضاعية تحنو على غير ولدها وتجعل له من ثديها غذاء ومن حجرها حواء ومن عطفها وفاء، والأم البديلة تحنو على جنين غيرها وتجعل من رحمها له وعاء ومن دمها غذاء ومن كبدها وطحالها تكاء. وعقد الاجتنان كغيره من العقود يجب أن يقوم على إرادتين متوافقتين خاليتين من عيوب الرضا، ويجب أن يكون أطرافه مدركين للالتزامات الناشئة عنه، ثم أوضح المؤلف آثار هذا العقد، فبالنسبة لالتزامات الزوجين (المستجن لهما) فإنهما يلتزمان (وورثتهما من بعدهما) بما يلي:
- الوفاء بالأجرة الاتفاقية.
- الوفاء بكافة النفقات اللازمة لإتمام هذه العملية.
- تسلم المولود، أياً كانت حالته الصحية أو الخلقية.
أما الأم البديلة فإنها تلتزم بما يلي:
- تقديم رحم خال وطاهر.
- المحافظة على الجنين والالتزام بتعليمات الجهة الطبية التي تتم عملية الحمل والوضع تحت إشرافها.
- تسليم المولود إلى المستجن لهما أو أحدهما، أو ممثلهما القانوني، أو إلى من هو أقرب إليه درجة من أقاربه، وهذا الترتيب ملزم بحيث لا يجوز الانتقال من مرتبة إلى أخرى إلا في حالة انعدام الأولى.
سابعاً: وأخيراً يشير المؤلف إلى أن عقد الاجتنان ينتهي بتحقق الغرض الذي أبرم من أجله, كما ينتهي بأسباب عارضة عامة تتحقق قبل تحقق الغرض كالإبطال أو الفسخ بشرط أن يكون ذلك بعد انعقاد العقد وقبل الشروع في تنفيذه باستدخال النطفة الأمشاج إلى الرحم، كما ينتهي بأسباب عارضة خاصة مثل سقوط الجنين وموت الأم البديلة سواء كان ذلك قبل تنفيذه أو بعد ذلك. ومن ناحية أخرى، فإن الطفل المولود عن طريق الرحم الظئر ينسب إلى الأب والأم صاحبي النطفة الأمشاج، ولا ينسب إلى الأم البديلة، حتى في حالة وفاتهما. وإن أحكام الشريعة الإسلامية الخاصة بالمرضعة الظئر تنظم وتحكم علاقة الطفل بالأم البديلة.
وبهذا المقال اختتم بيان الآراء الفقهية التي تسنى لي الاطلاع عليها بشأن التلقيح الاصطناعي وتأجير الأرحام، وأدعو في الختام المشرع السعودي إلى التدخل وإصدار نظام شامل في هذا الخصوص لأن هذا الموضوع حساس وشائك ولا يصح أن يترك الناس في حيرة بين الاجتهادات المتضاربة في هذا الشأن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي