"صياغة العقود العقارية (3)

[email protected]

في المقال السابق كان الحديث حول النقاط التي أثارها الأخ الفاضل المحامي عبد الله الناصري فيما يتعلق بصياغة العقود, وكان قد ذكر ثلاث نقاط علقت على اثنتين منها في المقال السابق, ونعلق على النقطة الثالثة وهي تفضيله النص على إسقاط أي دعوى بالغبن أو الغرر أو الغش أو الجهالة, وهذا الشرط من الشروط المشكلة جدا, فهل يحق لأحد الأطراف أن ينص على منع الطرف الثاني من استحقاقه في الرجوع عليه في حال كان هناك ما يوجب ذلك, أم لا؟, ولا بد من القول ابتداء إن هذا الشرط يأتي في سياق الحديث عن ما يعبر عنه بـ: "سلطان الإرادة العقدية" ومدى التوسع أو التضييق فيه, حيث تذهب بعض التشريعات إلى التضييق الشديد فيه بحيث تمنع أي اتفاق يخرج عن ما هو مجعول للطرفين, وتحصر الاتفاق في الجوانب الشكلية المتعلقة بالسلعة المباعة والمبلغ ومقداره وطريقة تسليمه وما يشابه ذلك من أمور, أما الباقي فيرجع إلى إرادة المشرع ولا يجوز الاتفاق على ما يخالفه, وتذهب تشريعات أخرى إلى التوسع في ذلك إلى أن يصل بعضها إلى إعطاء الحق للطرفين على الاتفاق على ما شاءا من شروط بشرط ألا تشتمل على مخالفة صريحة لثابت من ثوابت التشريع و هو ما يعبر عنه بـ "مخالفة النظام العام", كأن يتفقا مثلا على الأخذ بالفوائد الربوية, أو عدم اعتبار الرضى مثلا وهكذا مما هو واضح البطلان, وما بين هذين الاتجاهين يتفاوت الفقهاء والقانونيون في الأخذ بسلطان الإرادة.
وفيما يتعلق بالفقه الإسلامي فقد اختلف الفقهاء في ذلك كثيرا وإن كان قول الأكثر يتحفظ على التوسع في هذه الشروط, وتسمى بـ "الشروط الجعلية", وقد توسع المذهب الحنبلي في ذلك كثيرا وأجاز الكثير من الشروط, ثم جاءت مدرسة الإمام ابن تيمية وتوسعت أكثر في هذا الجانب وهي اختيار عدد من المحققين في هذا العصر ومنهم الشيخ السعدي وتلميذه ابن عثيمين, وهو المعمول به في القضاء في المملكة العربية السعودية في الجملة.
وبالعودة إلى موضوع المقال وتأسيسا على ما سبق فيمكن القول أن صياغة هذا الشرط تختلف من عقد لآخر وبالتالي يختلف الحكم فيها, فمثلا هناك من يكتبه بطريقة يكون فيها الخطاب موجها إلى القضاء مثل: "لا تسمع دعوى الجهالة أو الغرر والغبن..", وهذه من أضعف الصياغات وأخطرها لأن القضاء لا يمكن الاتفاق على منعه من النظر في شيء من الدعوى, وإن كان المراد من ذلك ألا يرفع الطرف الثاني الدعوى إلا أن الصياغة غير دقيقة وهي من صياغات التشريعات لا العقود, والصيغة الثانية لهذا الشرط تكون بإقرار الطرف المشتري بإسقاط أي حق له في الدعوى بالجهالة أو الغرر ونحوها – وهي ما أشار إليها المحامي الناصري – وفي رأيي أنها صيغة وسط لكن لا تخلو من مخاطرة حيث إنها تندرج فيما سبقت الإشارة إليه في أول المقال, وبالتالي ستكون خاضعة لرأي القضاء ومدى تقديره في اعتبار ذلك من النظام العام أم لا.
والصيغة الثالثة وهي أفضل هذه الصيغ وأقلها خطورة وأكثرها فائدة أن يصاغ الشرط بطريقة تفيد أن الطرف الثاني اطلع على السلعة وما يتعلق بها وتفاصيل الاتفاقية وعرفها معرفة ترفع الجهالة وتقرر العدالة المانعة للغرر والغبن والغش, وسبب تفضيل هذه الصيغة هو كونها تجعل الشرط واقعة ولا تكون مجرد اتفاق مستقبلي, وبالتالي يجوز لذي المصلحة أن يحتج بها عند الحاجة كأي واقعة من الوقائع, أما إذا كان اتفاقا بإسقاط الدعوى فهو مرهون بقناعة القضاء بذلك, والصيغة التي فضلتها هي كذلك ستعرض على القضاء ولكن خطورتها – في رأيي- أقل بكثير, وأرجو ألا يفهم من هذا التفصيل الدعوة إلى التحايل في الصياغات وهو ما كتبت في ذمه سابقا, وإنما هو محكوم بالقواعد العامة الحافظة للحقوق بين الطرفين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي