المنافسة هي الحل

[email protected]

بات واضحا منذ عقود أن قطاع النقل الجوي الداخلي يعاني اختناقات تزداد حدة مع مرور الوقت وتطور الحياة وزيادة عدد السكان واتساع حجم الاقتصاد. وعندما يتأمل المرء هذه الاختناقات يتعجب من هذا الجمود الإداري الغريب الذي يكبلنا ويمنعنا تبني السياسات الملائمة لعلاجها، على الرغم من توافر كل مقومات النجاح والتطور والانطلاق ! فأسواقنا كبيرة وحجم الطلب فيها ينمو بمعدلات عالية وفرص الربح مضمونة, وهي قطعا توفر الحوافز الكافية لانتشال مستوى الخدمة من هذه المستويات غير المرضية التي هي عليها الآن! ولا يوجد مبرر منطقي لتأخر علاج ما أصاب بعض قطاعاتنا الاقتصادية الحيوية، في الوقت الذي سبقتنا فيه مجتمعات جاءت من خلفنا وبدأت بعدنا.
عندما تحدث الاختناقات في خدمة يمكن إنتاجها وبيعها في السوق بثمن يسمح بتغطية تكلفتها وتحقيق هامش مغر أو حتى هامش معقول من الأرباح، فليس من الحكمة أن تبقى أسيرة روتين العمل الحكومي أو شبه الحكومي. لأن الأصل هو أن يتفرغ القطاع الحكومي للقيام بالخدمات السيادية والتنظيمية التي لا يمكن لغيره القيام بها، أما ما يمكن أن يدار بطريقة تجارية بحتة من الأنشطة الاقتصادية فينبغي تركه للقطاع الخاص. صحيح أن بعض الأنشطة الاقتصادية تكون في حاجة إلى الحكومة في بداية نشأتها، إما لأن هذه الأنشطة تحتاج إلى رساميل ضخمة عند تأسيسها، وإما بسبب ضيق السوق، وإما لأنها استثمارات طويلة الأجل لا تغري أصحاب الرساميل الخاصة بالولوج المبدئي فيها. لكن حالما تتغير طبيعة السوق أو الظروف المحيطة بها وتصبح مواتية لأن يحل القطاع الخاص محل القطاع العام في الإدارة والملكية، فإن الإسراع بتخصيص هذه القطاعات وفتح باب المنافسة فيها، سيعمل سريعا على فك كل الاختناقات التي يعانيها الناس وبكفاءة عالية سواء تعلق الأمر بجودة الخدمة أو تكلفتها. ومن العجيب أن يطول بنا الزمان للأخذ بهذه الخيارات والحلول الفاعلة، على الرغم من أنها حلول تنظيمية لا تكلف الخزانة العامة أي أعباء مالية إضافية، ولا يتطلب تبنيها سوى إرادة ماضية وقناعة صادقة بأهمية الأخذ بهذا التنظيم الإداري الذي ثبت نجاحه عند غيرنا.
والواقع أنه إذا لم تكن المعاناة الكبيرة التي صادفها الناس هذا الصيف في خدمات النقل الجوي، والتي فاقت كل تصور وبلغت أقصى مدى، سببا كافيا لسرعة التغيير وتبني أساليب التطوير، فليت شعري متى يأتي وأنـّا يكون؟
أقول قولي هذا بعد ما جاء في الأنباء من أن الخطوط السعودية تفكر في أمرين:
إما تأسيس شركة طيران جديدة للنقل الداخلي لتقديم الخدمات منخفضة التكاليف، أو بيع المقاعد مسبقة الحجز بأسعار منخفضة التكاليف عبر حملة كبيرة خلال موسم ركود حركة السفر الجوي بين بعض (لاحظ كلمة بعض) المحطات الداخلية.
ويبدو أن الذي دفع خطوطنا للتفكير في ذلك هو النجاح الملحوظ الذي صادف الشركتين المنافستين "سما" و"ناس". إن حاجة السوق الملحة إلى فتح باب المنافسة لزيادة عدد الرحلات والمقاعد غدا أمرا واضحا وجليا منذ أمد غير قصير نظرا للزيادة الكبيرة في الطلب. وهذا لا يحتاج إلى أن ننتظر كل هذا الزمان حتى تظهر شركات منافسة ونتأكد من مدى نجاحها لاتخاذ قرار بفتح باب المنافسة. ففي بلد متباعد المسافات كبلدنا وينمو فيه سكانها بمعدلات عالية ويتسع اقتصادها عاما بعد آخر مع نمو مواردها، تصبح الحاجة إلى زيادة خدمات النقل الجوي أمرا طبيعيا وحتميا.
لكن تأسيس الخطوط السعودية شركة طيران جديدة لن يكون إضافة ناجحة إلى سوق هذه الخدمات، إلا باستقلال الشركة الوليدة استقلالا تاما من حيث الإدارة والممارسة عن الخطوط السعودية، وإلا كانت نسخة منها بكل سلبياتها ومثالبها، حيث تتأخر القرارات وتخضع أحيانا لتدخلات إدارية تلغي بعض الرحلات وتسحب بعض الطائرات فجاءة من جدول الرحلات، وهي تصرفات لا تتناسب مع منطق السوق واحترام كرامة الناس وتقدير مصالحهم المادية وظروفهم الإنسانية العاجلة.
ومن ناحية أخرى، فإن كبر حجم مؤسسة الخطوط السعودية وطول عهدها باحتكار الخدمة لا يمكنها من الاستجابة لتغيرات السوق بالسرعة والكفاءة المناسبتين. ففي مثل هذه المؤسسات تكون القرارات بطيئة جدا، وبيئتها مواتية لاحتمال اتخاذ قرارات إدارية ومالية غير مناسبة. وقد تضخمت بالفعل أعمال ومسؤوليات الخطوط السعودية بدرجة كبيرة، وأضحي تفتيت أنشطتها مطلبا ضروريا لدواعي كفاءة التشغيل. ولذلك جاء قرار مجلس الوزراء بتحويل عدد من الوحدات الاستراتيجية داخل مؤسسة الخطوط السعودية إلى شركات تمهيدا لتخصيصها بمشاركة مستثمرين من القطاع الخاص. والمأمول الآن أن تجرى هذه العملية بشفافية عالية حتى تؤتي فكرة المنافسة ثمارها، وأن يتم طرح جزء من ملكية هذه الشركات للاكتتاب العام لدواعي العدالة، حتى لا يقتصر حق استغلال مثل هذه الفرص التجارية المضمونة على فئات بعينها من طبقات المجتمع.
أما فكرة بيع المقاعد مسبقة الحجز بأسعار منخفضة التكاليف خلال موسم ركود حركة السفر الجوي بين بعض المحطات الداخلية فلا أعلم كيف يمكن أن تعالج هذه الفكرة القصور الذي يشتكي منه الناس؟ ثم هل هذا يعني أن الضغط على المحطات الرئيسة عالية التشغيل سيبقى على ما هو عليه؟ حيث ما زال الناس يعانون صعوبة حصولهم على مقعد شاغر كل أيام الأسبوع وعلى مدار العام؟ الواقع أن الناس ليسوا في حاجة ملحة إلى خدمات منخفضة التكاليف بقدر ما هم في حاجة إلى توفير خدمات منتظمة راقية الأداء تحترم آدميتهم وتقدر مصالحهم حق التقدير.
الحل الاستراتيجي البسيط لمثل هذه الاختناقات يكمن في الإيمان بضرورة تغيير هيكل السوق وكسر الاحتكارات وفتح باب المنافسة الحقيقية أمام الجميع وبشفافية عالية، فهذا هو أقصر طريق للنجاح.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي