أهل الثقة أم أصحاب الخبرة؟

[email protected]

من المؤكد أننا نحن العرب نعيش حالة انهزام وانكسار وتخلف في مختلف جوانب الحياة ولكن من الصعب علينا التصديق بأننا وصلنا إلى ما دون ذلك بكثير, فنحن اليوم في نظر الكثير من المهتمين بالشأنين الثقافي والاجتماعي نعيش أزمة وجود, فنحن نعيش الاغتراب حتى ونحن نعيش على أرضنا وبين أهلنا. وعندما وجد البعض منا أن الشعور بالغربة في الوطن أصبح أمرا ثقيلا عليه أثر الهجرة ودخل في مغامرة البحث عن وطن جديد لعله يجد فيه ما يخلصه مما كان ينتابه من شعور بالمهانة والدنو وعدم الشعور بالانتماء في وطنه الأصلي, حتى وصل الأمر عندنا إلى أن يترك نصف الأطباء العرب وربع مهندسيهم بلدانهم الأصلية إلى أوطان وبلدان أخرى أملا بحياة أفضل لهم ولأبنائهم.
والاغتراب حالة ينتهي إليها الإنسان بعد أن يفقد الكثير من مقومات وجوده الأصلي, فالوجود الأصلي مرتبط بكرامة الإنسان كما تشير إلى ذلك الآية القرآنية "ولقد كرمنا بني آدم", فعندما تسحق كرامة الإنسان بالظلم المادي اوالمعنوي حتى ولو كان ذلك برضاه فإنه يعيش الحياة بلا وجود حقيقي. والوجود يرتبط أيضا بالمفهوم القرآني بأداء الإنسان لدوره كخليفة لله على هذه الأرض من أجل إصلاحها وإعمارها, "وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة" الآية 29 من سورة البقرة, وعندما يعجز الإنسان عن ممارسة مثل هذا الدور في وطنه إما بسبب ما يتعرض إليه من إهمال أو إقصاء وإما بسبب وقوف القوى والمؤسسات الفاعلة في وجه وإيجاد المعوقات في طريقه فإنه بذلك يصبح إنسانا مغربا لأن الوطن لم يمنحه وجودا فاعلا وحقيقيا. وإذا كان الوجود الأصلي يرتبط بامتلاك الإنسان حريته كما يذهب إلى ذلك المفكر الفرنسي سارتر, فإن الإنسان عندما يستعبد وتسلب حريته فإنه بذلك يفقد المكون الرئيسي في وجوده وهو أن يعيش حرا في حياته, وبانتفاء الحرية ينتهي الوجود الأصلي للإنسان وإن بقي في هذه الحياة فإنه يعيش في صور وأشكال مزيفة وبوجود وهمي وغير حقيقي. فالإنسان عندما يعطل دوره وتسلب حريته وتداس كرامته ولا يكون له أي تأثير في تشكيل حياته وواقعه فإنه أمام خيارين لا ثالث لهما, إما الهجرة إلى مكان آخر قد يتحول مع الزمن إلى وطن بديل له وإما أن يستنسخ من نفسه شخصيات مزورة حتى يتسنى له أن يعيش وجودا وهميا وحياة غير حقيقية على تراب وطنه الأصلي.
وإذا كان البعض من مفكرينا ومثقفينا يزعجهم جدا ألا ننشغل بالقضايا الرئيسية التي تمس وجودنا ونسمعهم يدعوننا مرارا وتكرارا إلى تلمس جذور مشكلة التخلف الذي نعيشه والتعرف على الأسباب الحقيقية التي أدت بنا إلى الفشل في كل الميادين على الرغم من محاولاتنا المتكررة للنهوض بأنفسنا وتغيير واقعنا, فإنهم بالتأكيد يريدون منا أن نهتم بالبحث عن أي شيء يعزز وجودنا ويؤصل المعاني الحقيقية في حياتنا, فالإنسان الكريم هو الذي سينتج لنا ولنفسه حياة كريمة, والإنسان الحر وغير المستعبد الذي لا تثقله كثرة القيود المفروضة عليه هو الإنسان الذي يمتلك فرصة للإبداع وإيجاد أحسن الطرق لتطوير نفسه ومجتمعه, والإنسان الفاعل الذي يعطى الفرصة للمشاركة في اتخاذ القرار والتشاور معه من أجل تحديد مستقبله هو الإنسان الذي بإمكانه أن يصنع تنمية حقيقية ترتقي به علميا واقتصاديا وتنهض به ثقافيا واجتماعيا. فالإنسان العربي يعيش حقا أزمة وجود وأكثر من يعاني هذه الأزمة هم الطبقات المفكرة والمبدعة والماهرة التي هي اليوم تستنزف بتشريدها من أوطانها ولا أقول بهجرتها لأن هجرة المضطر هي تشريد وهروب بالبقية الباقية من الوجود إلى حيث يوجد الأمن والكرامة والفضاء الذي يشجع الحرية والإبداع.
فالعالم المتقدم وعلى الرغم من أنه متقدم علينا بمسافات قد لا تقاس إلا بالسنوات الضوئية إلا أنه يدرك أن استمرار تفوقه يستلزم منه أن يراكم المزيد من رأسماله الفكري والعلمي والثقافي فكيف لا يرحب بل ويشجع على هجرة العقول المفكرة والمبدعة ليحتضنها في جامعاته ومختبراته ومراكز بحثه, وربما يستغرب البعض استقبال هذه الأمم والشعوب لهؤلاء الغرباء الوافدين إليهم من أقطار تختلف عنهم في اللغة والثقافة والعادات وكيف, وهو الأهم, ترحب بهم وتمنحهم الثقة للاندماج بهم والمشاركة معهم في إنتاج وتشكيل حياتهم. هذا الاستغراب ليس بالمستغرب لأنه يعبر عن مظهر من المظاهر الثقافية لأزمة الاغتراب عندنا, فثقافتنا تقدم الثقة على الخبرة وتلتمس العون والمشورة ممن يوثق بهم حتى وإن لم تكن لديهم خبرة أو معرفة وربما ليس عنده حتى أدنى صلة بالموضوع المراد استشارتهم فيه, فالمهم أنهم محل ثقة صاحب القرار وأما من لم يحز ثقتهم فإنه مستبعد وغير مرغوب فيه ولا مرحب به وإن امتلك الخبرة والمعرفة والدراية. لا أحد يستطيع أن يدعي أن الثقة غير مطلوبة عند الاستعانة بالآخرين في الرأي والعمل ولكن الثقة التي تنتقد وتخطئ هي الثقة التي تقدم الجاهل على العالم والمبتدئ وغير الملم بفنون الصنعة وعواقب الأمور على الخبير والمتبصر.
هذه الإشكالية والالتباس الذي ننظر به للثقة والخبرة أدخلت مجتمعاتنا في فوضى واضطراب وليس من باب المبالغة القول إن هذه الفوضى الاجتماعية تتحمل جزءا من مسؤولية إنتاج العنف والتطرف في مجتمعاتنا. فأصحاب القرار السياسي لا يحظى برعايتهم والقرب منهم إلا من يثقون به ويدينون بالولاء المطلق له حتى وإن لم يكونوا من أهل الخبرة ليستفاد منهم أو من أهل الرأي والدراية لينتفع بهم, وأهل التدين لا يزكون ولا يمنحون ثقتهم لأحد إلا لمن سلك طريقهم وانتهج مسلكهم وتبنى أفكارهم ولا يهم بعدها أن يكون من أهل الخبرة أو من أهل الغبرة. هذا الموقف من قبل التيارات الدينية في العموم تجاه أهل الخبرة يبرر الشك في قدرتهم على إدارة مجتمعاتهم ضمن متطلبات الدولة الحديثة.
هذه الإشكالية في تقديم الثقة على الخبرة أو التمسك بالثقة والإزاحة الكاملة لموضوع الخبرة لم تسلم منها حتى المؤسسات الثقافية والبحثية وحتى مؤسسات المجتمع المدني التي دخلت حديثا إلى مجتمعاتنا. فنرى هذه المؤسسات والأحزاب والتنظيمات والمراكز سرعان ما تختزل نفسها في شخص أو في شخصين وبعدها يبدأ التخلص من الآخرين وطردهم بحجج متعددة وبأعذار متنوعة ولكن الحقيقة هي أنهم لم ينالوا رضى أو ثقة هذا الشخص المقدس وبالتالي استحقوا اللعنة والطرد والتشهير بهم, وربما يتنامى هاجس الثقة عند هذا الشخص لينتهي الحال بهذه المؤسسة إلى أن تكون مقصورة فقط على أولاده وأقربائه والقليل جدا من أصدقائه المقربين.
وإذا كان هذا حال مؤسساتنا المدنية والاجتماعية وحتى العلمية والثقافية منها فكيف ينتظر منها أن يكون لها دور إيجابي في تطوير واقعنا وانتشالنا من حال التخلف والتمزق الذي نعيشه في الوقت الحاضر؟ هذا التمسك بالثقة وتقديسها جعلنا نطلبها حتى ولو بطرق غير مشروعة وذلك بشرائها بالأموال والمناصب, فصرنا نغدق الأموال والمناصب على غير مستحقيها لنجعل منهم محل ثقة لنا وهذا الأمر فتح علينا أبوابا جلبت الشر والبلاء علينا لأنه أفسد ضمائر الناس وأوكل أمورنا لمن ليس بالكفء لذلك, وأما أهل الكفاءة فوجدوا أنفسهم مضطرين إلى الهجرة والهروب إلى حيث يجدوا من يستفيد منهم ومن دون أن يضطروا إلى بيع أنفسهم أو فقدان حريتهم.
فالأمم المتقدمة والمتطورة لم تخلق لنفسها مثل هذه الإشكالية ولم تبن نفسها وتشكل ثقافتها على مبدأ الشك بالناس وعدم الثقة بمواطنيها, فالكل محل ثقة وتقدير واحترام مع إتاحة الفرصة للجميع ومن دون تحيز للمساهمة والمشاركة في تطوير أنفسهم وتنمية بلدانهم, وهناك نظام قوي ومؤسس بدقة وعنده من الأدوات والوسائل ما يستطيع أن يفرز من يخل بهذه الثقة أو يخرج عن دائرة ما أؤتمن عليه من قبل المجتمع. فالأساس هو تقديم أهل الخبرة والنظام هو الذي يتكفل وليس الفرد أو المجموعة بتحديد ممن هم أهل للثقة, وهذا لعله واحد من الأسرار التي جعلتنا شعوبا متأخرة وغيرنا استطاع أن يأخذ بأسباب التقدم والتطور. لا يمكن للحياة أن تتطور إلا عندما يمسك أهل الخبرة زمام الأمور, ولا يمكن لنا أن نتخلص من جهلنا وتأخرنا وفقرنا وضعفنا وقلة حيلتنا وهزالة اقتصادنا وضحالة ثقافتنا وسوء إدارتنا وكثرة الفساد عندنا وشدة الفتن بنا والانقسام بيننا إلا عندما نقدم أهل الخبرة والمعرفة ليقودوننا. أما الثقة فعلينا أن نحيل أمرها إلى قوة القانون والاجتهاد في الشفافية وتطبيق المحاسبة الصارمة والأخذ بالأساليب الإدارية العلمية والإنسانية والعمل على فصل ما هو خاص ويختص بالفرد عن الشأن العام وما هو يعود ملكيته للعموم, فبالقانون والشفافية والمحاسبة والإدارة الفاعلة نربي في أنفسنا الأمانة وتقدير المسؤولية والإخلاص في العمل, وهذه هي التي تصنع الإنسان الثقة والمدير الثقة والمساعد الثقة والمستشار الثقة, فليس هناك ما يبرر لنا عدم الاستعانة بأهل الخبرة في إدارة شؤوننا إذا ما أردنا الخير لأنفسنا إلا إذا كان المقصود بالثقة غير الأمانة والاستقامة والنزاهة والإخلاص في العمل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي