تناقضات "أوبك" واجتماعها القادم
"أوبك" لم تمت، رغم أن البعض أعلن عن موتها عدة مرات خلال العقود الثلاثة الماضية. أوبك لم تتفكك، رغم كل التنافر والتعارض بين دولها الأعضاء. أوبك ليست كهلة، رغم أنها أشرفت على الخمسين. إلا أنها مخلوق عجيب لما فيها من تناقضات عديدة.
التناقضات الاقتصادية
1- تقول النظرية الاقتصادية إن المنظمات الاحتكارية لا تعيش طويلا لأن الاتفاق على تخفيض الإنتاج ورفع الأسعار هو آخر مسمار في نعش المنظمة حيث تقوم بعض الدول بخداع الدول الأخرى عن طريق رفع الإنتاج للاستفادة من الأسعار المرتفعة. لكن هذه الزيادة ستظهر في السوق وستخفض الأسعار، وهكذا حتى تنهار كل الاتفاقات. عانت "أوبك" من هذه المشكلة عدة مرات، ولكنها لم تنهار. فهل فشلت النظرية الاقتصادية في تشخيصها لـ "أوبك"؟
2- تقوم أغلب دول "أوبك" بإنتاج كميات من النفط تفوق ما تحتاج إليه من أموال، خاصة في فترة الأسعار المرتفعة، ثم تقوم باستثمار الأموال الفائضة في الدول الصناعية. لماذا تقوم هذه الدول بتحويل النفط إلى أموال تفقد قيمتها بسبب التضخم وانخفاض الدولار، بينما يمكنها تخفيض الإنتاج حالياً وإنتاج النفط في المستقبل، وربما بيعه بسعر أعلى؟ هل فشلت دول أوبك في فهم النظرية الاقتصادية أم أن هناك عوامل أخرى أغفلها المحللون الماليون؟
3- تتمتع بعض دول "أوبك" باحتياطيات ضخمة وإنتاج كبير مثل السعودية بينما تضم أعضاء باحتياطيات صغيرة وإنتاج ضئيل مثل قطر، فهل يمكن أن تكون مصلحة السعودية مماثلة لمصلحة قطر؟
4- تتمتع الدول الأعضاء ذات الاحتياطيات النفطية الكبيرة مثل الإمارات والكويت والسعودية بعدد سكان أقل من الدول الأعضاء ذات الاحتياطيات القليلة نسبياً مثل إندونيسيا والجزائر، فهل يمكن أن تكون مصلحة الكويت مماثلة لمصلحة إندونيسيا؟
5- تتمتع بعض الدول بفائض في طاقتها الإنتاجية بينما تنتج الدول الأخرى بكامل طاقتها الإنتاجية. عند مناقشة زيادة الإنتاج، من سيوافق، ومن سيمانع؟
التناقضات السياسية
1- تضم "أوبك" دولاً بينها ما صنع الحداد، ومع ذلك استمرت اجتماعات "أوبك" بحضور الجميع! توقفت العلاقات الدبلوماسية بين بعض أعضاء "أوبك"، ومنع مواطنوها من السفر إلى الدولة الأخرى، لكن استمرت اللقاءات في اجتماعات "أوبك". والأعجب من ذلك أن بعض هذه الدول دخل في حروب طاحنة مع دول أخرى، ورغم ذلك استمر مندوبوها في حضور اجتماعات "أوبك"!
2- تضم دول "أوبك" أنظمة سياسية مختلفة من الصعب لها أن تجتمع على صعيد واحد بسبب الفروقات الفكرية والعقائدية بينها. فهناك دولا "جمهورية" ودولاً "ملكية"، هناك دولاً "ثورية" وهناك دولاً "تقليدية"، هناك دولاً كانت محسوبة على الاتحاد السوفيتي السابق، بينما حسبت دول أخرى على الولايات المتحدة.
3- في الوقت الحالي يمكن تصنيف دول "أوبك" إما ضد أمريكا مثل إيران وفنزويلا، أو مع أمريكا بالكامل مثل الكويت وقطر...ومؤخراً ليبيا، بينما تراوح دول أخرى في الوسط بين هذين الطرفين.
تصرفات مدروسة
لا يمكن فهم التناقضات أعلاه وسر بقاء "أوبك" حتى يومنا هذا إلا إذا أدركنا أن هناك عوامل اقتصادية واستراتيجية تحكم قرارات "أوبك"، وأن وزن كل من العوامل الاقتصادية والاستراتيجية يختلف من فترة لأخرى، وأن العوامل الاقتصادية قد تتفق مع العوامل الاستراتيجية في بعض الأحيان، وقد تعارضها في أحيان أخرى. في حالة التعارض، فإن القرار سيبنى على محصلة هذه القوى. تمثل حادثة 11 أيلول (سبتمبر) مثالاً على ذلك. فعلى الرغم من الحاجة إلى تخفيض الإنتاج في الربع الرابع من عام 2001، إلا أن "أوبك" اتخذت قراراً استراتيجياً بعد حادثة 11 أيلول (سبتمبر) بعدم تخفيض الإنتاج لما في ذلك من انعكاسات سلبية على العلاقات بين الدول العربية والولايات المتحدة. في هذه الحالة تعارضت العوامل الاقتصادية مع العوامل الاستراتيجية، لكن العوامل الاستراتيجية كانت أقوى.
إضافة إلى ذلك فإن علينا أن ندرك أن الدول ذات الاحتياطيات المنخفضة نسبياً لا يهمها أثر القرارات الحالية على المدى البعيد، بينما تهتم بها كثيراً الدول ذات الاحتياطيات الضخمة. إن مصلحة الدول ذات الاحتياطيات الضخمة تقتضي أن تستمر الدول المستهلكة باستخدام النفط لفترات طويلة من الزمن، لذلك تحاول زيادة الإنتاج لكبح جماح الأسعار لمنع شعوب هذه الدول من التحول عن النفط إلى بدائل أخرى. لهذا فإنه من المنطقي أن تقوم هذه الدول بالإنتاج فوق حاجتها واستثمار الأموال الفائضة في الخارج رغم الخسائر التي ستلحق بها من التضخم وانخفاض الدولار. إن خسارة مئات الملايين من الدولارات الآن أفضل بكثير من خسارة المستقبل...كله. لذلك فإن تصرفات كل دولة من دول "أوبك" هي تصرفات مدروسة مبنية على مصلحتها الخاصة، الأمر الذي يفسر الخلاف الدائم ضمن دول "أوبك" حول الحصص الإنتاجية وسقف الإنتاج. في هذه الحالة ستكون الغلبة لمن يستطيع التأثير في السوق فعلياً عن طريق خفض أو زيادة الإنتاج.
"أوبك" والاجتماع القادم
كل ما سبق كان مقدمة لفهم قرار "أوبك" في اجتماعها الذي ستعقده في الأسبوع المقبل. كل ما نسمعه الآن من تصريحات متعارضة حول ما ستقوم به "أوبك" يقع ضمن الأفكار المذكورة أعلاه. ستقوم كل الدول باتخاذ الموقف الذي يناسبها. هذا الموقف سيكون مبنيا على عوامل اقتصادية واستراتيجية، كما أن وزن العوامل الاقتصادية مقارنة بالعوامل الاستراتيجية سيختلف من دولة لأخرى. القرار النهائي سيكون محصلة لهذه العوامل، لذلك فإنه سيحتوي على بعد استراتيجي مهما كان القرار اقتصادياً.
اقتصادياً، احتمال انخفاض النمو الاقتصادي العالمي بسبب أزمة الائتمان في الولايات المتحدة يتطلب تخفيض أسعار النفط، الأمر الذي يتطلب الإبقاء على مستوى الإنتاج الحالي أو زيادته.
استراتيجياً، من الخطأ أن تقوم "أوبك" بتخفيض الإنتاج لمنع أسعار النفط من الانخفاض مع انخفاض مستويات النمو الاقتصادي، لذلك فإن العوامل الاقتصادية والاستراتيجية تقتضي إما الاستمرار في مستويات الإنتاج الحالية أو زيادتها.
لكن هناك عوامل استراتيجية ضمن دول "أوبك" تمنع الدول الراغبة في تخفيض الأسعار نسبياً لمنع أزمة الائتمان العقاري في الولايات المتحدة من الـتأثير في النمو الاقتصادي العالمي من مطالبة "أوبك" بزيادة الإنتاج، خاصة أن قمة "أوبك"، والتي ستعقد في الرياض، على الأبواب. إن إصرار الرياض على نجاح القمة من جهة، وعلى وحدة "أوبك" من جهة أخرى يتطلب أن يكون اجتماع "أوبك" في الأسبوع المقبل هادئاً للغاية. لذلك فإن الحل الوحيد أمام "أوبك"، اقتصادياً واستراتيجياً، هو إسعاد الجميع والإبقاء على مستويات الإنتاج الحالية في اجتماعها الأسبوع المقبل.