الحقيقة الواضحة في ارتفاع الأسعار.. الأرز أخيرا
جاءت تصريحات وزير التجارة والصناعة عن أسباب ارتفاع الأرز لتزيد من قلق الناس على مستوى معيشتهم المتدهور. هذا التدهور الذي بدأ مع مأساة انهيار سوق الأسهم وامتد مع ارتفاع أسعار مواد البناء والإيجارات السكنية والدواء، وهي سلع أساسية في حياة الناس كما ترى، ليتعداه أخيرا ويشمل عددا من السلع التموينية والاستهلاكية، كان آخرها ارتفاع أسعار الأرز بنسبة كبيرة بلغت نحو 35 في المائة!
وفي الفترة نفسها، جاء خبر اجتماع كبار تجار ومستوردي الأرز مع بعضهم بعضا لمناقشة مسألة ارتفاع أسعاره، ليثير لدى البعض شكوكا عن الغرض من هذا الاجتماع! لكن وزير التجارة نفى أن يكون اجتماع التجار بغرض الاتفاق على السعر، مؤكدا أن وزارته لم تضبط أي حالة من حالات الاستغلال أو أي تحالف مخالف للأنظمة لرفع سعر أي سلعة كانت، باستثناء تحالف شركات الأسمنت التي تكتلت لرفع الأسعار، والتي واجهها الوزير بقرار يلغي الزيادة ويعيد الأسعار إلى ما كانت عليه. وأكد الوزير أن الذي حدث هو العكس تماما، إذ إن كبار التجار اجتمعوا للتحالف من أجل الضغط على المصدرين الهنود لتحصيل أسعار استيراد أقل لطن الأرز، إلا أن وجود منافسات من تجار إقليميين ودوليين لم يترك للمستوردين السعوديين مجالا واسعا للمساومة. ورغم ما يمتلكه تجارنا من قوة شرائية، إلا أنها غير مؤثرة في سوق الأرز عالميا، فاستهلاكنا من الأرز بجميع أنواعه يبلغ نحو مليون طن من الأرز. فيما يبلغ الإنتاج العالمي للأرز نحو 500 مليون طن، وتعادل حصة الهند والصين من الإنتاج العالمي للأرز نحو 50 في المائة، غير أن الكميات التي يتم تصديرها من هذا الإنتاج لا تزيد على 5 في المائة وتقدر بـ 25 مليون طن.
كبار مستوردي الأرز من التجار السعوديين دافعوا – من جانبهم - عن ارتفاع الأسعار ونفوا أن يكون بسببهم. وأشاروا إلى أن السبب يعود لاحتكار الشركات الهندية المصدرة للأرز التي رفعت الأسعار هذا العام بنحو الضعف. فقد زادت تكلفة استيراد الطن الواحد من 700 دولار خلال العام الماضي، لتصل حاليا إلى 1200 دولار للطن بنسبة ارتفاع بلغت نحو 70 في المائة. وأضافوا أن من بين الأسباب الأخرى ارتفاع سعر صرف العملة الهندية أمام الدولار، وكذلك زيادة الطلب العالمي على الأرز الهندي من قبل الصين وأمريكا والدول الأوروبية وأيضا من قبل إيران التي يبدو أنها تحتاط بتخزين كميات من الأرز خوفا من شن هجوم أمريكي عليها. إضافة إلى تأثر محصول الأرز من الفيضانات التي تعرضت لها الهند أخيرا.
السيئ في الأمر هو أن هذا الارتفاع لم يبلغ أقصاه بعد! فالتجار يتوقعون أن تواصل أسعار الأرز ارتفاعها خلال الفترة المقبلة، حتى تتواكب مع الزيادات المتوالية التي فرضتها الشركات الهندية والتي تعادل 50 في المائة من أسعار العام الماضي. وهم يؤكدون أنهم لم يرفعوا الأسعار حتى الآن بنسبة ارتفاعها نفسها عند المصدر، ويعلله بعض التجار، بسبب سحبهم من المخزون الذي تم استيراده قبل ارتفاع الأسعار، وكذلك بسبب محاولة بعضهم تقليل هامش الربح لمواجهة المنافسة المحلية والحفاظ على حصصهم في السوق. لكن مع ذلك فالمتوقع استمرار زيادة أسعار الأرز التي سيؤثر فيها أيضا الانخفاض في الواردات الذي بلغ 20 في المائة عن الفترة الماضية نتيجة الارتفاع الكبير في الأسعار من المصدر.
في المقابل، يعتقد بعض المراقبين أن هناك أسبابا داخلية لارتفاع الأسعار منها وجود تكتلات يقوم بها بعض تجار المواد الغذائية الذين يحتكرون بيع سلع معينة ويقومون برفع أسعارها. وهم يدللون بأن تخفيض أسعار البنزين في فترة سابقة لم يعمل على تخفيض أسعار المواد الغذائية، مما يثير لديهم شكوكا في أن التجار الموردين للسلع الغذائية استفادوا من هذه التخفيضات لكن أسعارهم لم تواكب انخفاض تكاليف المحروقات ونقل السلع. بقي على وزارة التجارة أن تتأكد من هذه الدعاوى وتقارن الأوضاع لدينا بالأسواق العالمية والأسواق المجاورة.
أما الحقيقة الواضحة التي لا يمكن إنكارها أو التقليل من شأنها، فهي أن الأسعار ارتفعت ارتفاعا مؤثرا جدا على مستوى معيشة الناس وقد طالت سلعا وخدمات أساسية في سلة استهلاكهم. وهم لا ينتظرون من المسؤولين أن يخرجوا فقط ليبرروا أسباب الزيادة سواء كانت بسبب زيادة الأسعار لدى المصدرين، أو بسبب تدهور سعر صرف الريال أو غيرها من الأسباب. وإنما يتوقعون أن يطمئنهم المسؤولون ويصرحوا عن الإجراءات والسياسات الاقتصادية التي ينوون اتخاذها لكبح جماح ارتفاع الأسعار، وامتصاص قدر من هذه التكاليف المتزايدة التي أضحت تثقل حياتهم وتمس صميم معاشهم. من مساوئ عدم كبح جماح التضخم أنه حلزوني، متى ما بدأ انفلت على كل الجبهات، ولذلك نبهنا منذ بداية ظاهرته بضرورة عدم الاستهانة بآثاره السلبية التي ستتسع مع مرور الوقت لتشمل كل القطاعات.
حينما يتعلق الأمر بكبح جماح تضخم أسعار السلع والخدمات الأساسية، فإن من بين السياسات الممكنة التفكير في استغلال جزء من عوائد النفط العالية في تقديم إعانات مدروسة، بحيث تخدم فئات المجتمع الأكثر تضررا، وقد يستلزم الحال منح قسائم إعانات لذوى الدخل المحدود تستخدم لأغراض محددة سلفا كشراء سلعة أولية معينة مثل الأرز أو الحليب أو شراء خدمة أساسية معينة أو حتى تحمل جزء من تكاليفها كالخدمات الطبية.
وقد يكون من المفيد والمناسب الآن السماح بإنشاء جمعية أهلية للمستهلكين كما ينادي به البعض، تكون مختلفة في أهدافها عن جمعية حماية المستهلكين الحكومية. بحيث تعمل على مراجعة الأسعار وتقصي أسباب زيادتها، ونشر الوعي الاستهلاكي بين الناس ومساعدتهم على تغيير بعض العادات الاستهلاكية خاصة ما تعلق منها بعدد مرات تناول السلعة أو كمية الاستهلاك منها، والدفاع عن حقوقهم وتوجيههم نحو السلع البديلة. فمن شأن هذا أن يولد ضغوطا سوقية على السلع التي ارتفعت أسعارها ليعيد التوازن بين العرض والطلب. الناس مقبلة على مصروفات صعبة في مناسبات متتالية: العودة للمدارس، ودخول شهر رمضان، ثم عيد الفطر. كان الله في عوننا. الأمر يتطلب تبني سياسات اقتصادية ملائمة تتصدى لمشكلة ارتفاع الأسعار، وهو عمل من صميم أعمال الحكومات.