هاؤمُ انظروا حاليَ.. أمن مسكن يؤوي أولاديَ؟(2 من 2 )
في تقديري أن مقالة الدكتور عبد الرحمن الزامل عن مشكلة الإسكان في مجتمعنا، يمكن أن تعد ثاني أهم مقالة اقتصادية محلية كتبت خلال السنتين الأخيرتين، بعد المقالة الشهيرة للدكتور سليمان السليم وزير التجارة ووزير المالية الأسبق التي سطرها، حفظه الله، عقب مأساة انهيار سوق الأسهم السعودي في هذه الجريدة الغراء. فمقالة أخي أبي بندر كانت تنبض بصحة التشخيص وصدق المشاعر ونبل الضمير وإخلاص النصح لولاة أمره ولمجتمعه. ومع أني سبق أن كتبت مقالتين عن الموضوع ذاته قبل نحو ستة أشهر (أحلامنا في الإسكان، "الاقتصادية": 9 - 16 المحرم 1428هـ)، إلا أن مقالة الدكتور الزامل صنعت حراكا مطلوبا ومهما لقضية اقتصادية مصيرية، شجعتنا على العودة إليها من خلال هذه المقالة بجزءيها، كما دفعت بعض الإخوة الزملاء في هذه الصفحة كالدكتور عدنان الشيحة والأستاذ فواز الفواز على تسطير مقالتين رائعتين مفيدتين خلال أسبوع واحد، وهذا حراك مطلوب وفيه خير بحول الله.
أصبح ظاهرا للعيان الآن أنه لا يكفي لحل مشكلة الإسكان في بلدنا التوقف عند مظاهرها السطحية أو تقديم حلول جزئية. الأمر يقتضي وضع منظومة إسكانية متكاملة، تتخطى الأوضاع الجامدة السائدة وتؤسس لحلول صحيحة متكاملة. تجعل الحصول على سكن في متناول الناس. وفي تصوري أن مشكلة الإسكان في مجتمعنا لن تحل إلا بتحقيق أمرين:
أولهما: توفير الأراضي المجانية لشركات تطوير عقاري متخصصة تقوم بتطوير أحياء كاملة وفق ضوابط معينة. وهذا يستدعي سن قوانين واضحة تمنع استيلاء الأفراد على مساحات شاسعة من الأراضي للمتاجرة فيها بقصد زيادة الثراء. أما المساحات الكبيرة الراهنة فيجب فرض واجبات مالية عليها حتى لو كان من باب المصلحة المرسلة ( زكاة، ضرائب) لدفع ملاكها لتنميتها أو بيعها، بل لا مانع حتى من استرجاعها إذا اقتضت المصلحة ذلك. إن الأراضي البور ليس لأحد جهد في وجودها، وهي من الأملاك الاجتماعية التي لا يجوز نقلها للملكية الخاصة إلا بمسوغات ومبررات دقيقة تراعي مصلحة عموم البشر. فما وقع من هذه الأراضي داخل النطاق العمراني وصلح لسكن الناس لا ينبغي منح الأفراد منها ما يزيد على حاجاتهم السكنية. وما كان منها خارج نطاق العمران، فلا يجوز أيضا تحويلها للملكية الخاصة إلا وفق ضوابط حددها الشارع فيما يفيد العباد والبلاد من المشاريع الزراعية أو الصناعية أو الخدمية، وبشرط عدم المتاجرة فيها كأراض، وعدم حجرها وتعطيلها فوق ثلاث سنوات لأن في هذا تضييقا على الآخرين وسلب لحقوقهم سواء كانوا من الجيل الحالي أو القادم. مثل هذا التنظيم ضروري لضمان حد معقول من عدالة التوزيع، فالعدالة مبدأ رباني خالد والسموات والأرض قامتا على العدل. يجب أن نعمل بجد على حماية حاجات الناس الأساسية (على الأقل) من أن تكون مرتعا للفساد. هذا فيما يتعلق بالجانب الأول من حل المشكلة.
أما الجانب الثاني فهو يتعلق بتوفير برامج تمويل مقبولة شرعا ومنافسة من حيث التكلفة، تسهل على الناس تملك منازلهم بعد حين من الزمن من خلال دفع أقساط ميسرة تعادل تقريبا ما يدفعونه من إيجارات. ولا يمنع هذا أن تتحمل الدولة، لأسباب اجتماعية، جزءا من تكلفة هذا التمويل وفقا لقدرات المواطنين، مع مراعاة ظروفهم السائدة بعد فداحة خسائرهم في سوق الأسهم ومعاناتهم من تضخم الأسعار الراهن، سواء كان تضخما محليا بسبب سياسة الإنفاق المالي أو مستوردا بسبب سياسة سعر الصرف المتحفظة. ويمكن الاستئناس ببرنامج شركة أرامكو السعودية للإسكان وبالبرامج المثيلة في دول الجوار الخليجية.
لقد عملنا قرابة 30 عاما في مركز أبحاث الاقتصاد الإسلامي في جامعة الملك عبد العزيز، على تطوير صيغ تمويل متوافقة مع شرعنا. ونجحنا في ذلك حتى أصبحت هذه الصيغ ولله الحمد مجازة من قبل الهيئات الشرعية وقابلة للتطبيق من الناحية العملية من قبل المؤسسات المصرفية. وقد قل الآن عدد من يشكك في سلامة هذه الصيغ، لكن لا يزال هناك من يعترض على تكاليف هذه الصيغ مقارنة بغيرها، وهذا صحيح وهو يرجع في تصوري لسببين:
الأول: احتكار الخدمات المصرفية في اقتصاد يستوعب عددا أكبر من عددها الحالي المحدود. إن فتح باب المنافسة في الأنشطة الاقتصادية التي يمكن أن تدار بطرق تجارية بحتة أضحى أمرا مطلوبا لفاعليته في رفع كفاءة الأنشطة الاقتصادية وخفض تكلفتها. وقد لمس الناس أخيرا فوائد المنافسة في قطاع الاتصالات والنقل الجوي، وهكذا سيكون الحال في جميع القطاعات بما فيه خدمات القطاع المصرفي.
أما الأمر الثاني: فهو ارتفاع درجة مخاطر التمويل في مجتمعنا بسبب ضعف القوانين الحافظة للحقوق، وأحيانا تدني كفاءة تنفيذ الأحكام.
ونظرا لضخامة المبالغ المطلوبة لتلبية الطلب المتوقع على الوحدات السكنية خلال الـ 20 سنة المقبلة والتي تقدر بنحو 4.2 تريليون ريال، فلن تستطيع الدولة وحدها ولا البنوك منفردة توفير هذا المبلغ الضخم دون تطوير منظومة تمويل متكاملة تسمح بتكوين أسواق أولية وثانوية وتطوير الأدوات اللازمة لتمويل هذا الطلب الكبير على المساكن الجديدة. لكن العقبة الكأداء التي تحول دون نهوض البنوك لتطوير هذه الأدوات والإسهام في توفير التمويل اللازم لقطاع الإسكان هي حاجتها إلى مزيد من الضمانات المتعلقة بتوثيق الرهون وسرعة التنفيذ عليها. وهذا يقتضي تطوير الأنظمة الحافظة للحقوق ( نظام الرهن العقاري) ورفع كفاءة أداء الجهاز القضائي لتنفيذ الأحكام والفصل في المنازعات. (قدر بعض المختصين أن ما بين 60 إلى 70 في المائة من المساهمات العقارية متعثرة، بلغت قيمتها نحو 40 مليار ريال!!).
تمليك الناس مساكنهم سيعمل على توسيع قاعدة الملكية في المجتمع، وهذا بدوره سيجعل من قطاع الإسكان قطاعا قائدا ومروجا لبقية قطاعات الاقتصاد.
هناك مجتمعات تسبق الأحداث، وأخرى تواكب الأحداث، وثالثة تتخلف عن الأحداث، ورابعة ربما لا تشعر أصلا بالأحداث!! علينا أن نتحلى ببصيرة نافذة ورؤية واضحة وعزيمة ماضية لعمل ما يجب علينا عمله.