حوكمة المياه: في الطريق
عُقدت في الرياض في الشهر الماضي ندوة مهمة بعنوان: "حوكمة المصارف" حضرها نخبة من المديرين التنفيذيين والخبراء الوطنيين والدوليين في الشؤون المصرفية. وأوصت الندوة في جلستها الختامية بضرورة تعزيز ثقافة الإدارة السليمة للمصارف، وتطبيق مبادئ وأسس الحوكمة للمؤسسات المصرفية والاقتصادية في المملكة، خاصة فيما يتعلق بتقرير الحدود الدنيا لمشاركة رأس المال، وتحسين أساليب الرقابة المصرفية والإفصاح، وتسهيل عملية تبادل المعلومات بشفافية.
إن الحوكمة تعني ببساطة "الإدارة الرشيدة" وهي أحد المجالات الاقتصادية التي تبحث في كيفية تعزيز وتحفيز الإدارة وزيادة كفاءتها من خلال مجموعة من المبادئ والخطوط الإرشادية والآليات التي ترمي في مفهومها العريض إلى العمل على تخفيف حدة الفقر وتحسين نوعية الحياة. ومن هنا يمكن القول إن هناك العديد من نقاط الالتقاء بين حوكمة الكيانات الاقتصادية وحوكمة المياهWater Governance كمورد اقتصادي.
وتتطلب حوكمة المياه الجيدة الالتزام بمجموعة من المبادئ الأساسية التي ترشد إدارة المياه وتساعد على اتخاذ القرار السليم، ومن ضمن تلك المبادئ: المشاركة، الشفافية، التوازن، والعدالة.
لقد أثبتت الخبرة الدولية أن سماح الحكومات "بمشاركة" المؤسسات المدنية والمنتفعين وإعطائهم مجالاً أوسع في إدارة وتخطيط استخدامات المياه له مردود إيجابي على تنمية المياه، خاصة مع توافر أنظمة وتشريعات تعمل على تحسين عملية حوكمة المياه. كما أن تفعيل المشاركة أثناء مرحلة اتخاذ القرار وفي مراحل التنفيذ وصنع السياسات المائية يعني سلامة القرار ويضمن حقوق الفقراء والطبقات المهمشة، وبالتالي يخلق الثقة في السياسات الموضوعة.
من ناحية أخرى، فإن حوكمة المياه يجب أن تتم بطريقة منفتحة لا تعطي مجالاً للجدال بين الأطراف كافة حتى تَكوْن مراحل تشكيل القرار ووضع السياسات ذات "شفافية" عالية وأن يتم الحصول على المعلومة بشكل مفهوم لكي تعطي الفرصة للمنتفعين بمتابعة التنفيذ وإيجاد الحلول المناسبة لمشكلات المياه. ومن المبادئ الأساسية أيضاً لحوكمة المياه الجيدة إيجاد "التوازن" في استخدام موارد المياه والبيئة، حيث إن الاستخدام المتعقل للمياه والمحافظة عليها وترشيدها، إضافة إلى احترام البيئة وصيانتها من الأمور الحيوية التي يجب الالتزام بها لضمان الحفاظ على المياه للأجيال الحالية والمستقبلية.
إن المياه مورد طبيعي ومصدر مشترك للجميع وهي سلعة غير متنافسة لا يستطيع أي شخص حرمان الآخر من استخدامها، وغير محتكرة لا يمكن منع الآخر من استخدامها، وغير مرفوضة لا يستطيع أي شخص أن يمنع عن الانتفاع بها حتى لو قرر ذلك. لـذا من الضروري أن تقسم "بعدالة" بين مختلف المستهلكين حتى وإن قلت. وهذا هو المبدأ الأساسي الذي يحكم إدارة المياه الرشيدة، الذي أكده ديننا الإسلامي الحنيف، فالعدالة في الإسلام هي إحدى دعائم الدين الأساسية ويشمل ذلك العدل في استخدام المياه والحصول عليها.
وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن توجيه حوكمة المياه لا يتم فحسب من خلال تحديد المبادئ والالتزام بها، بل يلزم أيضاً العمل على تفعيل الصيغ Formulations الموضوعة لتنفيذ السياسات المائية والتشريعية المؤسسية، إضافة إلى توضيح ماهية الأدوار للأطراف المعنية سواء الحكومة أو المجتمع المدني أو القطاع الخاص ومسؤوليات كل منهم فيما يتعلق بملكية الموارد المائية وإدارتها وتقديم الخدمات. وتزداد فاعلية حوكمة المياه وأهميتها باعتبارها وسيلة ناجحة لتحقيق التنمية المستدامة والقضاء على الفقر. فالمعلوم أن هناك رابطة تبادلية قوية بين نقص المياه وخدماتها من جهة وانتشار ظاهرة الفقر في كثير من المجتمعات النامية وأن ندرة المياه ليست في نقص الإمدادات أو التمويل، ولكنها نتيجة سوء الإدارة، ومن ثم فإن نجاح الحوكمة يُعد المقياس للقدرة على مواجهة التحديات المتمثلة في الأبعاد الأربعة التالية:
ـ البعد الاجتماعي، الذي يرى ضرورة الاستخدام العادل لموارد المياه للمنتفعين كافة حتى وإن كانت محدودة.
ـ البعد الاقتصادي، الذي يركز على الاستخدام الكفء للمياه ودورها في النمو الاقتصادي.
ـ البعد السياسي، الذي يشير إلى ضمان وصول المياه وخدماتها للمنتفعين على مستوى متساو.
ـ البعد البيئي، الذي يؤكد دوماً تعزيز استدامة الموارد المائية وسلامة الأنظمة البيئية.
خلاصة القول إن حوكمة المياه مسؤولية تضامنية تتطلب من جميع المنتفعين "الجهات الحكومية ـ المجتمع المدني ـ القطاع الخاص" العمل على سد فجوة الحوكمة الناتجة من ضعف الإدارة المائية، وعدم قدرة الأنظمة والتشريعات على الحد من الممارسات الخاطئة في التعامل مع المياه حتى يمكن إعادة التوازن بين متطلبات التنمية والحفاظ على موارد المياه الطبيعية. وإذا كان هناك اهتمام إقليمي وعالمي بحوكمة الكيانات الاقتصادية لتدعم النشاط الاقتصادي، فإن الضرورة تقتضي أيضاً النظر إلى حوكمة المياه، باعتبار المياه مورداً طبيعياً مؤثراً في القطاعات الاقتصادية كافة وقطاعات الخدمات، بل هو رافد أساسي لضمان استمرارية الحياة بجميع صورها. وهذا يتفق تماماً مع عولمة التفكير التي تنظر إلى المياه وندرتها كونها مشكلة دولية تتخطى الحدود المحلية ومسؤولية مشتركة للدول كافة.
خبير في برنامج الأمم المتحدة للمعونة الفنية سابقاً