سوقنا المالية الموغلة في الغرابة والانفراد
إن الظروف والأوضاع المتقلبة التي مرت بها السوق المالية في المملكة تعد استثنائية بكل المقاييس، بل هي أقرب إلى الغرابة والانفراد بمظاهرها وظواهرها التي تستعصي على الفهم والإدراك والاستنباط والتحليل، وقد أسهم في ذلك المخاض الطويل ثم الولادة المبكرة المتعسرة لبدايات السوق، من دكاكين العقار والخدمات العامة! .. وعندما أريد للجنين أن ينمو ويتربّى في بيئة صحية في أحضان أم ترعاه (مؤسسة النقد)، كان يشكو من كثير من العلل التي تمكنت منه داخليا، حيث استعصى على المعالج تشخيصها والتعرف عليها، ناهيك عن معرفة العلاج ومتابعة الالتزام به!!.
وحتى عندما أردنا إلحاق الفتى العليل بالمنهج الذي استقت منه وتربّت عليه سائر أسواق العالم، كان قد فاته شيء من المنهج، وسبقه زملاؤه في التحصيل والنضج والإدراك، فظل يلهث محاولا اللحاق بهم، وهو يقوم ويسقط من شدة الإعياء، وتأثير سوء التغذية الذي لازمه منذ المخاض..
وعندما أدركنا بعض الحقائق، وأنه لا بد من إقامة سياج حصين يحمي ذلك الفتى، ويضمن له بيئة صحية يترعرع فيها ويكبر، بعيدا عن مخاطر الأمراض، وعوادي الزمان، وذلك بإقامة السياج التشريعي، فات علينا أن نستكمل البنيان، و تركنا فيه ثغرات تسلل منها الضعف والهوان إلى الكيان، ولم نستطع إغلاقها حتى بعد أن تبين لنا ذلك!.. أقصد كيان السوق ذاته (الشركة) وبيئة الممارسة (البورصة)، حيث عهدنا بالأولى إلى الهيئة المثقلة بهموم التكوين واستكمال التشريع، وحملناها بهذا دور المنفذ، والمراقب على سلامة البنيان، وهو ما كان يصطدم بأبسط مبادئ حسن الإدارة، وعهدنا بالثانية إلى البنوك، التي حاولت أن تساير الوضع، وتتنافس على اقتسام المحصول الدسم، الذي غذى أرقام أرباحها، وحلق بها إلى مستويات لم يكن لها مثيل حولنا، وأغراها ذلك بإغداق التسهيلات على عملائها وإغرائهم و(إغوائهم) بها، لإدمان التعود والملازمة، ما دام الرابح الأوحد هو البنك، جيئة وذهابا، مرة من عوائد التسهيلات، ومرة من عوائد التداول، وكانت بذلك تنفخ مع النافخين في فقاعة السوق، التي ما لبثت أن انفجرت، وتكشّف بانفجارها أن أول الخاسرين هم من وضعوا ثقتهم بها، أي البنوك، وزجّوا بمدخراتهم في صناديقها، ثم اكتشفوا أن ما كان يخلع على إدارة تلك الصناديق من صفات التفوق الإداري، لم يكن يخلو من مبالغة وتضليل..!
ثم جاء عهد، كان كل شخص فيه يدعي أن الحق فيما يقول، ولم تعد مهنة التشخيص والتحليل قاصرة على المتخصصين المؤهلين، بل أصبح الكل يرتادها، حتى رجل الشارع والعامل والسائق، بالضبط مثل الفن لا يحتاج إلى مؤهل، كي يطرقه من أراد، حتى غسالو الملابس!
وكان هناك المضللون الذين خدعوا الناس بقولهم اطمئنوا فالمؤشر سيصكّ الثلاثين ألفا، وجرّوا وراءهم السذج، حتى هووا في قاع بئر بعيدة القرار، وهناك من علق الأمر على فتح السوق للمقيمين المحرومين من نعيمها، وهم يظنون أن العشرين مليارا من الدولارات، يحولونها سنويا إلى بلدانهم، ستتحول إلى سوقنا، ولم تتحدث الأخبار بعد ذلك عن مقدار ما دخل السوق منها، ربما لأنه لم يدخل شيء، أو أن المقيمين لم يكونوا بالسذاجة التي كنا عليها!
وهناك من قال إن العلة في قيمة السهم الاسمية، وادعى أن الخمسين ريالا هي قيمة عالية تحول بين المواطن وبين امتلاك السهم، وأنه لتوسيع القاعدة لا بد من تفتيت السهم إلى خمسة، لكي تنتهي المشكلة، ولا يعود المتلاعبون قادرين على اختراق السوق، وبعد التجاوب معهم لم يتغير شيء، بل الملاحظ أنه زاد الاختراق وهناك من ظن أن المشكلة في دوام السوق لفترتين، وفي دوام يوم الخميس، ولا بد من توحيد الفترتين وإلغاء يوم الخميس، لكن عندما تم ذلك لوحظ تسارع اتجاه السوق نحو الهبوط.
وهناك من جعل نسبة التذبذب اليومية هي مفتاح الحل، وأزعجهم خفضها إلى النصف، عندما كانت السوق تحلق في الهواء لأن ذلك يحول بينهم وبين النفخ بقوة، وعندما تم التجاوب معهم، وأعيدت النسبة إلى سابق عهدها، زاد ذلك من وتيرة الانحدار، لأنه سمح بالهبوط والصعود بنسبة 60 في المائة في الأسبوع، ولكن مع الأسف كان الهبوط من نصيب الأسهم الصلبة، والصعود لما عداها، وهو ما حقق أهداف المتنفعين.
وهكذا، كان المتلاعبون بالمرصاد لأي محاولة لترميم السوق، وسد الثغرات التي كانوا يتسللون منها، وكانوا بذلك أشبه بالقوارض في المنزل، يتنقلون من ركن إلى آخر، وكلما حاول صاحب المنزل إبادتهم تسلّلوا إلى ركن آخر لكي يعبثوا فيه، ولم تعد المبيدات المستعملة تؤثر فيهم، لتعوّدهم عليها وتأقلمهم معها، لكونها كانت من النوع الهادئ، المعطّر.
والآن، واضح أن الهيئة انصرفت إلى محاولة زيادة عمق السوق، وتوسيع قاعدة ملاّكها، عن طريق تكثيف الاكتتابات الجديدة في محاولة لتصعيب مهمة الاختراق، وهو توجه يؤكد سلامة الإقبال الكبير على الاكتتاب، وتغطيته أضعافا، وهو ما يرد على من ادّعوا أن إحدى العلل هي نقص السيولة.. بيد أن الملاحظ أن ذلك فتح أفقا جديدا للمتلاعبين لزيادة السيطرة والتحكم في شركات صغيرة، برؤوس أموال متدنية، ما إن تدلف إلى السوق حتى يتلقفونها بالترحيب، في صورة أشبه ما تكون باتفاقات غير معلنة، محلقين بسهمها في الغمام، يتبعهم السذج، حتى إذا ما وصلوا إلى بغيتهم، بدأوا في جني الأرباح الطائلة، وكل منهم يتخلص مما في يده ليبقى في أيدي الأغبياء.. وشاشات التداول هي أكبر برهان على أن سهم شركات من هذا النوع وصل إلى أكثر من عشرة أضعاف قيمته في أقل من أسبوع، (يسهم في ذلك فتح نسبة التذبذب في اليوم الأول)، في حين أن الشركات الكبيرة الجديدة ذات البعد الاقتصادي، لم يتجاوز نموها الـ 10 في المائة، في الفترة ذاتها..!
هذا غير معقول.. لكنه واقع مع الأسف.. واللا معقول الآخر أن تتهافت على السوق شركات هزيلة خالية من النفع العام، أو أي بعد اقتصادي، فما الذي تستفيده السوق والاقتصاد من شركة لا يتجاوز رأسمالها 100 مليون، أو حتى بضع مئات، ينحصر نشاطها في مجال لا يهم الناس ولا ينفعهم.. واللا معقول الثالث هو ما نسمعه من وجود قوائم طويلة لشركات مماثلة، تنتظر دورها، أو دورا غير دورها في الطرح، حتى إنه لم يعد في البلد من يمارس عملا تجاريا إلا ويحاول النزول إلى السوق، لما يعرفه، وما سيغدقه عليه ذلك.. واللا معقول الرابع هو أن يظل الكل يتجرع الحسرة، وهو يرى الأمور تزداد سوءا، ليس في انحسار قيمة المؤشر إلى ثلث ما كانت عليه، فحسب، بل في وجود من ينعمون من هذا الوضع، ويحققون دخولا لا يحلمون بها.. أما اللا معقول الخامس فهو أن تخسر الشركات القوية الداعمة للاقتصاد أكثر من نصف قيمتها منذ أول العام، وتكسب الشركات الهامشية الخاسرة، أو التي لم تبدأ عملها، نفس النسبة!
ألم أقل لكم إنها سوق موغلة في الغرابة.. ولا تخضع لأي مقومات منطقية، ولا يزال أمامها طريق طويل قبل أن نقول إنها بلغت مرحلة الرشد والنضج، وإنها قادرة على استعادة ثقة المستثمرين الجادين، قبل أن يغادرها آخرهم، وينفرد بها الخاطفون.
والله من وراء القصد