حزام الأزمات والمؤامرات

[email protected]

قراءة مجريات الأحداث الساخنة والمتفجرة من العراق إلى لبنان إلى غزة وتلك المتناثرة هنا وهناك، لا يمكن أن نفهم منها إلا أن المنطقة مقبلة خلال السنوات القليلة المقبلة على قلاقل ونزاعات وأزمات متلاحقة سوف تدخلها في دوامة من الصراعات والتقاتل وإثارة النعرات المذهبية والعرقية والمناطقية، إن لم يتم تداركها مسبقا بمحاصرة لهبها وشررها المتطاير والعمل الجاد والمسؤول على محاولة إطفائها قبل أن تستفحل وتشعل الحرائق، وهذه مسؤولية قيادات المنطقة ونخبها ومؤسساتها السياسية، فالوضع جد خطير مما لا يقبل التهاون به ومعه وتركه يتفاعل يوما بعد يوم سلبيا مكونا أزمة بعد أخرى ومفجرا مشكلة تلو مشكلة، خصوصا أن المنطقة لا تحتمل مثل هذا الوضع الملتهب بسبب تنوعها العرقي والمذهبي مما يمكن تغذيتها بموروثات تاريخية سوف تنبش وتستدعى بكل أسف لتكون وقودا لها، وهنا مكمن الخطورة البالغ.
الملاحظة المهمة هنا هي أن اشتغال الأزمات وتشابه ظروفها ومسبباتها ترابطت زمنيا وتشابهت عناصريا وتتابع انفجارها في زمن متقارب بل ومتتابع يؤكد على أنها أشعلت بفعل فاعل لا عن تفاعل طبيعي نتيجة لمسببات وظواهر ضغطت عليها، فشعوب المنطقة بكل مكوناتها المختلفة تعايشت على مدى قرون بسلام ووئام وأمان، وفي ظل هذا التعايش تشكلت كيانات دول تماسكت وشارك الجميع في إنشائها وتكونها، بل تكاتف الجميع باختلافاتهم المذهبية والعرقية على تحقيقها وخاضوا حروب استقلال من المستعمر باسم, وتحت راية الهوية الوطنية الجامعة لكل المكونات المختلفة من أجل ذلك، وهذا يعني أن الاختلافات المذهبية والعرقية لم تمثل يوما مشكلة تهدد الوحدات الوطنية لدول المنطقة، ولم تكن يوما مثار نزاع وصدام وقلاقل، فالجميع عاشوا وتعايشوا ضمن مكون أكبر وهو الوطن.
إلا أن ما نراه اليوم من اشتعال للحرائق هنا وهناك، وترابط أحداثها التي أوجدت حالات تصارع وصراع وصل أو يكاد يصل للصراع الدموي ـ كما في العراق وكما جرى في غزة، وكما هو مرشح في لبنان، إن لم تتم معالجة الملفات السياسية المعقدة بحكمة وروية ـ بين فرقاء وأطراف الوطن الواحد والتي توشك أن تضرب الوحدات الوطنية في صميمها وهو التعايش، ويستبدل بقلاقل تفرز شركاء الوطن الواحد إلى تجمعات مذهبية وعرقية وأيضا مناطقية تدفع وبكل أسف بها إلى التناحر فيما بينها، ما نراه.. فيه مؤشر إلى أن منطقتنا تتعرض بالفعل إلى عملية تآمرية تريد تحقيق هدف واحد جوهري وأساسي لمن يشرف على هذه العملية وهو تفتيت دول المنطقة إلى دويلات مذهبية وعرقية صغيرة تظل تتصارع وتتقاتل وتتنازع بحيث تنشغل بنفسها عن أعدائها الحقيقيين، وتترك لهم المنطقة لاستثمار وسرقة ثرواتها والسيطرة عليها، وهذه النظرة ليست تأثرا بنظرية المؤامرة التي يرى البعض أنها خرافة خلقها العجز والضعف للتذرع بها لتبرير الهزائم والانكسارات.. نعم.. في نظرية المؤامرة مبالغة كبيرة، ولكن هذا لا ينفي وجودها، والمؤامرة ليست عملا خارقا، بل استثمار طرف قوي لظروف الضعف لدى الطرف الآخر، ووضع الخطط غير المعلنة لتوجيه الأحداث لوجهة تخدم مصالح وأهداف محددة، ومن نظرة فاحصة لما يجري في منطقتنا من العراق للبنان لفلسطين وكذلك إثارة قضايا كقضية دارفور السودانية، لا يمكن أن يفهم منها على أنها أحداث نشأت وجرت في سياق طبيعة الصراعات، بل تفهم على أنها صراعات أثيرت واستثيرت لزعزعة المنطقة وبعثرة أوراقها وتفتيت أجزائها، وهذه ليست خططا أخفيت وتوجهات أنكرها أصحابها ومن يقفون خلفها، بل تآمر معلن ومصرح به، فهل نسينا أن الولايات المتحدة قالت علنا وعلى لسان وزير خارجيتها السابق كولن باول بعد نجاح غزو واحتلال العراق إنه لا بد من إعادة تشكيل خريطة المنطقة؟ وهل نسينا أن كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الحالية قالت أمام الملأ وأكثر من مرة أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان الصيف الماضي بما عرف بحرب تموز (يوليو)، إن الشرق الأوسط الجديد سوف يولد من رحم المعاناة، أي أن عدوان "إسرائيل" الذي وقفت خلفه واشنطن بقوة ودعم سياسي وعسكري، هو الذي سوف يؤدي لإعادة تشكيل المنطقة بعد القضاء على المقاومة ممثلة بحزب الله.. ؟ والشرق الأوسط الجديد المقصود به هو تفتيت الدول المحيطة بإسرائيل وتلك التي تمثل تهديدا لها إلى دويلات صغيرة، لتبقي "إسرائيل" القوة الكبرى والأكبر والمهيمنة على المنطقة، وهذه ليست أضغاث أحلام في مخيلتنا وإن كانت كذلك فعلا في أذهانهم، بل خطط ومؤامرات نراها الآن يسعون لتطبيقها كما يحاولون في العراق حيث أطلقوا عملاءهم ومن استقدموهم معهم على ظهور دبابات الاحتلال لزرع الفتن المذهبية والعرقية للبدء منه لتفتيت المنطقة، ولكن هيهات لهم أن ينجحوا، فهذه المنطقة التي تعتبر قلب العالم ومخزونه التاريخي دينيا وحضاريا سوف تكون عصية على مؤامرات الخبث كما كانت عبر التاريخ، وهذه الأمة العربية بامتدادها الإسلامي وعمقها الحضاري كانت وسوف تكون قادرة على امتصاص وتذويب كل الطامحين والحالمين والمهوسين بالاحتلال والسلب والنهب، فالمغول والتتار والصليبيون وحتى الاستعمار الحديث رحلوا خائبين منكسرين في نهاية الأمر، ولكن علينا ألا نركن للتاريخ، فمواجهة مخططات أثارت الفتن والقلاقل وزرع الفرقة والتفرقة، يتطلب تحرك القيادات السياسية والروحية لضبط الأمور ومنع تصعيدها وإذكاء نارها، وأن تتحمل دورها ومسؤوليتها التاريخية في مثل هذه الظروف، فمنطقتنا وعطفا على تسارع أحداث القلاقل ومؤشراته من حدة الخلافات السياسية ونشوء بؤر توتر حادة كما في مخيم نهر البارد في لبنان وما حدث في غزة، ما هي إلا علامات ودلائل على أنه مطلوب أن تكون المنطقة عبارة عن حزام أزمات ومؤامرات، والله يستر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي