نظام المنافسات.. ومفتاح نجاحه

[email protected]

يعد " نظام المنافسات والمشتريات الحكومية" الذي أصبح نافذاً بتاريخ 20/2/1428هـ (10/3/2007م) واحداً من أهم الأنظمة التي صدرت في الآونة الأخيرة ضمن خطوات الإصلاح الاقتصادي التي يتبناها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز. وقد جاء ذلك النظام ليحل مكان سابقه الذي صدر في عام 1397هـ, أي قبل ثلاثين عاماً. إذ أضحى النظام القديم بمواده المحدودة ولوائحه المبعثرة عاجزاً عن مواكبة النمو الكبير في الإنفاق الحكومي في شتى مجالاته سواء كان ذلك في المشروعات والبرامج الرأسماليـة, الخدمات, أو المشتريات.

ذلك العجز في النظام القديم تراكم تدريجياً خلال الثلاثين عاماً الماضية ما أتاح الفرصة لتكوين رؤية جيدة عن مكامن الخلل عبر تجارب طويلة للإدارات الحكومية ورجال الأعمال في التعامل مع منافسات وعقود الدولة. إذ على الرغم من الإنجازات الكبيرة التي تحققت خلال تلك الأعوام في مشروعات البنية التحتية والخدمات كالطرق, الموانئ البحرية والجوية, الاتصالات, الكهرباء, المياه, الصحة, التعليم, وغيرها, في ظل أحكام النظام السابق, كان هناك الكثير من الثغرات والغموض في الالتزامات التعاقدية بين المقاولين وبين الإدارات الحكومية بسبب التفسيرات والاجتهادات المطاطية تارة والمتضاربة تارة أخرى ما وفر هامشاً واسعاً للعبث والفساد على حساب المال العام وجودة العمل.
ومن ثم كان من أولويات النظام الجديد معالجة تلك الثغرات وإزالة الغموض في كافة مراحل التعاقد بين الحكومة وبين الأطراف الأخرى من شركات, مؤسسات, وأفراد بضبط المصطلحات في مواد النظام بحيث تُوظّف المرونة في تلك المواد لتحقيق أقصى درجات الكفاية الاقتصادية للحصول على المشتريات الحكومية, وفي الوقت ذاته حماية المتعاملين من مقاولين وغيرهم من إساءة استخدام تلك المرونة ضدهم بالتمييز بين متعامل وآخر. ولعل من أفضل الأمثلة التي يمكن عرضها في هذا السياق موضوع " الدفعة المقدمة " التي تدفعها الجهة الحكومية للمتعاقد عند إبرام العقد.
فقد جاء نص المادة الثامنة والثلاثين من النظام الجديد على النحو التالي: "يجوز للجهة الحكومية أن تدفع للمتعاقد معها دفعة مقدمة من استحقاقه بنسبة 5 في المائة من القيمة الإجمالية للعقد, بشرط ألا تتجاوز قيمة الدفعة مبلغ خمسين مليون ريال أو ما يعادلها مقابل ضمان بنكي مساوِ لهذه القيمة, ويُنص على الدفعة المقدمة, إن وجدت, في الشروط والمواصفات عند طرح المنافسة, وتحسم هذه الدفعة من مستخلصات المتعاقد على أقساط ابتداء من المستخلص الأول, وفقاً للضوابط الموضحة في اللائحة التنفيذية ". والشاهد هنا أن المرونة التي منحها النظام للجهة الحكومية بجواز دفع دفعة مقدمة للمقاول ينبغي ألا يُساء استخدامها بحيث تُعطى لمقاول وتُحجب عن آخر كما كان الحال سابقاً تحت مظلة أحكام النظام القديم التي أطلقت الحرية كاملة للجهة الحكومية لتقدير ملاءمة دفع الدفعة المقدمة حتى بعد كشف أسعار المتنافسين واستكمال إجراءات الترسية ما أخل بمبدأ تكافؤ الفرص والمساواة في المعاملة. لذا تصدى النظام الجديد لتلك الثغرة في الأحكام السابقة بأن أوجب على الجهة الحكومية الإفصاح سلفاً عند طرح المنافسة فيما إذا كانت هناك دفعة مقدمة أم لا, ومن ثم متى ما قُدمت العروض وأُرسي المشروع لم تعد تلك الدفعة المقدمة أمراً جوازياً تقدره الجهة الحكومية.
وقد يكون من المناسب الإشارة هنا إلى أن موضوع " الدفعة المقدمة "يشكل هاجساً مهما للمقاولين ما جعله يتصدر قائمة الإجراءات التي تناولها قرار مجلس الوزراء رقم (23) وتاريخ 17/1/1428هـ لمعالجة المعوقات التي تواجه قطاع المقاولات. إذ جاء البند الأول في ذلك القرار بتعديل نسبة قيمة الدفعة المقدمة من 5 في المائة إلى 10 في المائة من قيمة العقد كإجراء استثنائي لمدة خمس سنوات, مع بقاء مبلغ الخمسين مليون ريال كسقف أعلى للدفعة المقدمة والحفاظ على الشروط والأحكام الأخرى الواردة في المادة (38) من نظام المنافسات والمشتريات الحكومية دون تعديل.
هناك آليات أخرى كثيرة في النظام الجديد لتعزيز المنافسة والشفافية في عقود الجهات الحكومية ومنع تأثير وتداخل المصالح الشخصية فيها. من بين تلك الآليات الإعلان عن أسماء الشركات والمؤسسات التي تتقدم بعروضها في المنافسات ما يُسهل أمام المراقبين رصد سلوكيات بعض الجهات الحكومية في قصر التعامل على دائرة ضيقة من المقاولين. ثم هناك موضوع الخسائر التي قد يتكبدها المقاولون لأسباب خارجة عن إرادتهم كزيادة التعريفة الجمركية, الرسوم, الضرائب, والمواد أو الخدمات المسعرة رسمياً. إذ أدى غياب نصوص واضحة في النظام السابق لمعالجة تلك الخسائر إلى الزج بكم هائل من المنازعات والخصومات إلى ديوان المظالم للفصل فيها بين المقاولين وبين الجهات الحكومية, بينما تصدى النظام الجديد لذلك الجانب من الالتزامات التعاقدية بشكل واضح ومتكامل في فقرات المادة (43).
بالطبع لا يسمح حيز هذا المقال بسرد جميع مزايا ومحاسن النظام الجديد مقارنة بسابقه, لأنها كثيرة. لكن اللافت للنظر أنه على الرغم من تلك المزايا والمعايير العالية للشفافية, لم يزل عدد لا بأس به من المقاولين ورجال الأعمال ينظر إلى النظام الجديد, بعد مضي ثمانية أشهر على صدوره, بريبة وتحفظ لا مبرر لهما. ولعل تلك النظرة من أولئك البعض تدعو وزارة المالية إلى أن تبادر إلى رسم برنامج "لإدارة" ذلك النظام بمهنية تتلاءم مع متطلبات السوق اليوم, والتنسيق مع الغرف التجارية الصناعية في إطلاق برنامج "توعية وحوار" لتسليط الضوء على النظام وآلياته عبر ورش عمل يشارك فيها, إلى جانب رجال الأعمال, المسؤولون الحكوميون في إدارات المشتريات والمنافسات, الرقابة المالية, والقانونية. على أن يتوج ذلك الجهد بوضع آلية مراقبة "monitoring mechanism" تختلف عن رقابة ما بعد الصرف التي يضطلع بها ديوان المراقبة العامة, ولتكن على شكل فريق عمل من الوزارة ومجلس الغرف لرصد مدى التزام الجهات الحكومية بنص وروح النظام الجديد ونشر تقرير سنوي عن نتائج ذلك الرصد كي تتسنى معالجة ما قد يكون هناك من خلل في وقت مبكر وعدم الانتظار ثلاثين عاماً أخرى.
ختاماً, لا ننسى أن هناك أكثر من 200 مليار ريال تُنفق سنوياً تحت مظلة " نظام المنافسات والمشتريات الحكومية " الذي إن نجحنا في إدارته, ستُنفق تلك المبالغ بكفاية وعدالة ترعى حقوق جميع الأطراف وعلى رأسها الوطن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي