تحدي روح الفشل والإخفاق

[email protected]

على الرغم من مظاهر التقدم المادي والعمراني والخدمي في حياتنا خلال نصف القرن الأخير، وعلى الرغم من ارتفاع مستوى معيشة السكان النسبي مقارنة بجيل آبائهم وأجدادهم، إلا أن المتمعن في حقيقة نشاطنا الاقتصادي يلاحظ بسهولة أن هذه المظاهر لا تقوم على أساس اقتصادي متين وسليم، يضمن لنا استمرار مستوى المعاش الذي بلغناه. إننا ما زلنا نقع ضمن دائرة الشعوب التي تفتقر إلى ممارسة النشاط الاقتصادي المنتج الذي يحوّل الموارد الأولية إلى سلع وخدمات ذات قيم مضافة مولدة للثروات الحقيقية، التي تسمح بتطور الاقتصاد ونموه وتولد الاستثمارات وفرص العمل التي تتحقق لنا وللأعداد المتزايدة من أجيالنا المقبلة مزيدا من التقدم والازدهار. إننا ما زلنا عالة على غيرنا في كل شيء تقريبا ابتداء من طعامنا الأساسي وشرابنا المحلّى من البحار مرورا بملابسنا التقليدية ومستلزمات بناء مساكننا وأثاثها وريشها حتى وسائل الدفاع عن أرضنا ومكتسباتنا.
لا شك أن تقلب حياة الأمم بين قوة وضعف هي من سنن الحياة ومظاهرها الكبرى، لكن الأمم الحصيفة والشعوب الأبية تستغل سريعا الفرص التي تتاح لها لكي تنعتق من ربقة التخلف والضياع، فترسم لنفسها خططا اقتصادية جادة وملزمة تقودها خلال فترة زمنية محسوبة نحو تحقيق أهداف كمية واضحة ومحددة، تستطيع بها صيانة مصيرها والمحافظة على مكتسباتها.
والناظر يرى أننا بعد نحو 40 عاما من الأخذ بسلسلة من خطط التنمية الاقتصادية لم تفلح جهودنا بعد في تحقيق تنويع وتوسيع حقيقي في القاعدة الإنتاجية لاقتصادنا. تنويعا يعمل على تقليل نسبة مساهمة القطاعات الاستخراجية في تشكيل دخلنا الوطني، وزيادة مساهمة قطاعات الإنتاج التي تحول الموارد الطبيعية إلى سلع جديدة ذات قيم مضافة، تسمح فعلا بتنويع مصادر الدخل وزيادة قيمته وفي الوقت نفسه تقلل من الاعتماد على مصدره النفطي الاستخراجي الوحيد . إن 40 عاما فترة كافية لتقييم مسيرة التنمية في بلادنا ومراجعتها لاكتشاف نوع الخلل وطبيعته الذي تاه باقتصادنا عن طريق التنمية المأمول. وهي لعمرك فترة كافية في مسيرة الشعوب والأمم لتصنع من خلالها نهضة اقتصادية حقيقية تنقلها من التخلف إلى طريق الانطلاق الاقتصادي. إن تجارب دول مثل كوريا وماليزيا وسنغافورة ثم دبي مثال حي على ما يمكن أن يتحقق من إنجاز خلال فترة أربعة عقود من حياة الشعوب ! فقد حققت هذه المجتمعات نقلة تنموية ناجحة في ظرف جيل واحد.
لقد بات ظاهرا للعيان أن تخلفنا لا يعود إلى نقص في الإمكانات أو فقر في الثروات، وإنما لافتقادنا روح العمل المنتج الخلاق. لم يعد توافر الموارد الطبيعية طريقا مضمونا لثراء أي مجتمع، بل حتى التقنية انقلبت فيها الأمور رأسا على عقب، إذ ما عادت القدرة على تصنيع منتجات جديدة هي العامل الأول والحاسم في المنافسة. إن الدول اليوم تتنافس على تسويق المعرفة المكثفة التي تحول الموارد الطبيعية إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية. إن العامل الحاسم في المنافسة أصبح المنهج التقني "التكنولوجي" أو تطوير العمليات التكنولوجية. و بلوغ هذه المرتبة ليس له إلا طريق واحد... وهو الاستثمار في الإنسان! إن مستوى التعليم ونوعية المهارات المكتسبة سيقومان بالدور الحاسم في مسألة التنافس العالمي. فالصناعات المربحة والرائدة أصبحت تنحصر تقريبا في سبعة مجالات: الإلكترونيات الدقيقة، التكنولوجيا الحيوية، صناعة المواد الجديدة، الاتصالات السلكية واللاسلكية، الطيران المدني، الإنسان الآلي والآلات الصناعية، الحاسبات الآلية وبرامج التشغيل. والمدقق يرى أن هذه الصناعات تعتمد في استحواذها على "العقل" وليس على توافر الموارد الطبيعية.
لقد نجحت الهند أخيرا - وهي من الدول ذات متوسط دخل فردي منخفض - في مزاحمة أساطين صناعة البرمجة الإلكترونية في العالم. وأصبحت كبرى الشركات العالمية تتسابق صوب قريتي "بنجالور" و"بونا" في الهند للحصول على هذه الخدمات بدلا من ضاحية وادي السيليكون في كاليفورنيا. والعلة واضحة، فهذا التدافع سببه أن العاملين في هذه القرية تخرجوا في جامعات هندية رفيعة المستوى، يجيد المتخرجون فيها علوم التقنية الحديثة ويفهمون اللغة العالمية السائدة، والأهم أنهم الأرخص تكلفة بين نظرائهم في الدول الصناعية. ومن يستطع تطوير بحوث العمليات لينتج السلع بتكلفة أقل سيكون بمقدوره انتزاعها من مخترعها.
إن طريق نهضتنا يبدأ من بناء الإنسان، وبناؤه ينطلق من تصميم نظام تعليمي نوعي ببرامج محددة وموصوفة بدقة ومناسبة لمقتضيات العصر ودواعي التنافس العالمي الراهن، لا من خلال اعتماد نفقات إضافية سنوية لمؤسسات تعليمية تقليدية قائمة. لقد أدركت بعض دول الجوار الأهمية القصوى لمسألة الاستثمار في التعليم فعمدت إلى استثمار عوائد النفط المتزايدة في الفترة الأخيرة في برامج طموحة من هذا القبيل، فخططت لإقامة مدن تعليمية راقية بالتعاون مع مؤسسات وجامعات دولية مرموقة. وتجيء مبادرة الشيخ محمد آل مكتوم الأخيرة بتخصيص عشرة مليارات دولار لدعم العلم والمعرفة في البلاد العربية لتعطينا بارقة أمل أن شيئا ما سيحدث في حياتنا. لكني أتمنى أن نسبق غيرنا فيما نحن أولى به وأحوج إليه.
لم تعد مسألة التعليم قضية تقليدية ترفيهية كمالية تتأخر في ترتيب أولويات خطط الإنفاق العام. فلنبدأ بمؤسسة تعليمية راقية واحدة على الأقل، ثم حتى تؤتي أكلها علينا الاستمرار في تكثيف برامج الابتعاث، وإلا فإن طريق النهوض سيكون طويلا جدا أمامنا، ثم يأتي علينا زمان نتحسر فيه على ضياع فرص أتيحت لنا. المال موجود وتبقى الهمم الرفيعة. إن مما يصعب على العقل تصوره أن تكون لاقتصادنا هذه القوة من الفوائض المالية ونعجز عن التصدي لمثل هذه التحديات المصيرية بالكفاءة والتنظيم والسرعة التي تناسب جدية هذه التحديات وأهميتها!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي