نظام الخدمات الصحية في أستراليا خيار قد يناسبنا

[email protected]

تعاني الخدمات الصحية اختناقات واضحة وتدنيا في مستواها بسبب النمو الكبير في عدد السكان الذي لم يواكبه نمو مماثل في تلك الخدمات. فهناك، على سبيل المثال، 2.22 طبيب لكل ألف ساكن في قطر، و2.02 طبيب في الإمارات، و3.37 طبيب في فرنسا، بينما لا يتجاوز العدد في السعودية 1.37 طبيب. وبسبب الاكتظاظ الذي تعانيه المستشفيات الحكومية يضطر المواطن في أحيان كثيرة إلى اللجوء إلى المستوصفات والمستشفيات الخاصة للحصول على الخدمات الصحية الأولية والثانوية، ما يثقل كاهله بتكاليف لا تتناسب, في معظم الأحيان, مع مستوى دخله.
تحدثت وزارة الصحة عن خطة لإعادة هيكلة الخدمات الصحية، تقوم على تخصيص جميع المستشفيات الحكومية وإصدار بوليصة تأمين لكل مواطن تتحمل الوزارة تكاليفها. إلا أن تجربة التخصيص في القطاع الصحي المتمثلة في تشغيل مستشفيات الوزارة من خلال شركات التشغيل لم تكن إيجابية ولا مشجعة، وفي الغالب ترتب عليها تردٍ في مستوى الخدمات المقدمة وارتفاع في تكاليفها على الدولة، ما اضطر الوزارة أخيرا إلى إلغاء العديد من عقود التشغيل والتوجه إلى أسلوب التشغيل الذاتي المباشر. وتجربة مستشفى الملك فهد في الحرس الوطني، هي الأخرى، شاهد آخر على فشل أسلوب التشغيل من خلال الشركات، فمن خلال التشغيل الذاتي تمكن المستشفى من خفض تكلفة التشغيل، واستخدم الوفر المالي في تحسين الخدمات الصحية وتسريع عملية إحلال العمالة السعودية محل الأجنبية من خلال تنفيذ برامج تأهيلية رفعت كفاءتها وتدريبها.
لذا قد يكون من قبيل المغامرة اتخاذ خطوة جريئة كتلك التي تتحدث عنها وزارة الصحة المتمثلة في تخصيص جميع المستشفيات الحكومية، لما سيترتب عليها من تدهور محتمل في الخدمات الصحية وارتفاع في تكاليفها، بصورة تجعل من غير الممكن وفاء الوزارة بتعهدها بتحمل كامل تكلفة التأمين الطبي للمواطنين، ويصبح المواطن الذي لا يقدر على تحمل تكاليف علاجه في مستشفى خاص, بالتالي, دون أدنى خدمة صحية، ما يتطلب البحث عن حلول أكثر عملية ومناسبة، لا يترتب عليها اتخاذ خطوات تحمل الكثير من المخاطرة، لمجرد القول إن ذلك سيمكن الوزارة من التفرغ لمسؤولية مراقبة الخدمات الصحية وتنظيمها. وأحد الخيارات الأكثر عملية ومناسبة لواقع السعودية، هو وضع تنظيم مماثل لنظام الخدمات الصحية في أستراليا، الذي يعد واحدا من أنجح برامج الخدمات الصحية الممولة من قبل الدولة في العالم، في الوقت نفسه الذي يسمح فيه بقيام القطاع الخاص بدور مهم في تقديم الخدمات الصحية.
ففي أستراليا تقدم الخدمات الصحية من خلال برنامجي دعم حكوميين، الأول: لتقديم خدمات العلاج ويسمى مديكير Medicare، يتم من خلاله تأمين العلاج المجاني لمواطني أستراليا في المستشفيات العامة وتحمل معظم تكاليف علاجهم في العيادات والمستشفيات الخاصة. والبرنامج الآخر هو نظام الإعانات الصيدلانية Pharmaceutical Benefits Scheme or PBS، الذي تقوم بموجبه الحكومة الأسترالية بتحمل معظم تكاليف الأدوية التي يحتاج إليها المريض، سواء كانت الوصفة الطبية صادرة من مستشفى حكومي أو خاص.
برنامج مديكير بدأ تطبيقه عام 1975، وتقوم فكرته على تعويض مقدمي الخدمة الصحية في القطاع الخاص عن الخدمات التي يقدمونها للمستفيدين من البرنامج على أساس رسم محدد سلفا لكل نوع من أنواع الخدمات الصحية، ويمكن إجمال أهم مكونات البرنامج في التالي:
1 - يتحمل البرنامج تكلفة مراجعة عيادات الأطباء العامين في العيادات الخاصة، و85 في المائة من تكلفة مراجعة الأطباء الاستشاريين، والباقي يتحمله التأمين الصحي الخاص بالمستفيد أو المستفيد نفسه، لذا فمعظم، إن لم يكن كل، خدمات العيادات الخارجية تقدم في أستراليا من خلال العيادات الخاصة.
2 - يتحمل البرنامج كامل تكلفة العلاج في المستشفيات الحكومية، التي تشكل معظم المستشفيات, وفيها ثلاثة أرباع الأسرة الطبية في أستراليا، ويحق لكل أسترالي العلاج في هذه المستشفيات مجانا.
4 - يتحمل البرنامج 75 في المائة من تكاليف العلاج والتنويم في المستشفيات الخاصة، وما زاد على ذلك يتحمله التأمين الطبي الخاص بالمستفيد أو المستفيد نفسه.
بالنسبة إلى نظام الإعانات الصيدلانية PBS فتعود بدايته إلى عام 1948، وتقوم فكرته على تقديم الحكومة الأسترالية دعما كبيرا لأسعار الأدوية، فبعد الاتفاق بين الحكومة وموردي الأدوية على سعر دواء معين، يوضع الدواء في قائمة الأدوية المدعومة، بالتالي لا يدفع المواطن إلا جزءا يسيرا من ثمنه وتتحمل الدولة باقي التكلفة. أيضا يحدد النظام سقفا أعلى لما يتحمله المواطن من تكلفة كل فاتورة دواء، حيث حدد هذا السقف بمبلغ 4.9 دولار أسترالي لمحدودي الدخل ومستفيدي الضمان الاجتماعي ومن في حكمهم، ولسواهم حدد السقف بمبلغ 30.7 دولار. كما وضع النظام حدين أعليين لإجمالي تكلفة الدواء التي يمكن أن يتحملها المواطن سنويا، أحدهما لمحدودي الدخل والآخر لغيرهم، وفي حال الوصول إلى الحد الأعلى يصبح الدواء بقية العام مجاناً لمحدودي الدخل، ولغيرهم ينخفض الحد الأعلى لقيمة فاتورة الدواء إلى 4.9 دولار بدلا من 30.7 دولار. وتبلغ التكلفة السنوية لنظام الإعانات الصيدلانية على الحكومة الأسترالية حاليا نحو خمسة مليارات دولار ويتحمل المستفيدون نحو 900 مليون دولار، ما يعني أن الحكومة الأسترالية تتحمل نحو 85 في المائة من تكلفة الدواء عن المواطن الأسترالي.
هذا التنظيم الشامل مكن الحكومة الأسترالية من تقديم خدمات صحية راقية مجانية أو بتكلفة متدنية، في الوقت نفسه الذي أتاحت فيه للقطاع الخاص لعب دور مهم في تقديم الخدمات الصحية، وفق أسلوب يشجع هذا القطاع على التنافس لرفع جودة الخدمة وخفض تكلفتها على المواطن، ونجاح هذا التنظيم وشعبيته الكبيرة بين الأستراليين قد يكون مؤشرا على إمكانية نجاحه لدينا ومناسبته لقطاعنا الصحي، ودون أدنى شك هو أفضل من خيار التخصيص الكامل للمستشفيات، وسأتناول الأسبوع المقبل خيارا آخر لإعادة هيكلة قطاعنا الصحي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي