المواطن والسكن .. يجب إعمال النظرة الاقتصادية في مساكن المستقبل
قدمت إلينا الطفرة المالية الأولى بمجموعة من مشاعر الشغف وحب إشباع الرغبات, والانطلاق في الاستهلاك والتوسع فيه, ولا سيما في المساكن التي كانت قبل ذلك, عبارة عن مساحات وتقسيمات متناهية في الصغر, يعيش في الواحد منها عدد كبير من أفراد العائلة, وما زالت آثارها شواهد باقية في الأحياء القديمة في المدن والقرى, تمَلك الواحد منا الدهشة كلما مر بها, ويعتريه شعور بالاستغراب مفاده كيف كان الناس, ولاسيما الأسر الكبيرة, تعيش في مثل تلك المساكن؟!
ولم يكن مستغربا على مجتمع عاش الحرمان وشظف العيش والفاقة, بكل ألوانها, أن يسخر الإمكانات التي أفاء الله بها عليه, لتعويض حرمانه, فانطلقت الفئة التي وسع الله عليها في الزرق في بناء مساكن فسيحة تفوق حاجتها أضعافا, إلى حد الاكتفاء باستخدام جزء من المنزل, أو ملاحقه, والصرف على صيانة الأجزاء الأخرى!
ولم يخل الأمر, في معظم الحالات, من التأثر بنظرة التباهي وحب التفاخر أمام الآخرين, في تحديد حجم المنزل, وشكله ومكوناته, بل الاهتمام بمظهره الخارجي أكثر, حيث كانت الأكثرية تبالغ في الصرف على المكونات الخارجية أكثر من غيرها!
من ناحية أخرى, لم تكن هناك مشكلة فيما يتعلق بالصيانة والعناية بالمنزل, حيث كانت العمالة المنزلية في متناول من يرغب بالجملة,
حتى لو فاق عددها عدد أفراد الأسرة في بعض المنازل, أما تكاليف الخدمات ومرافق الخدمة, فكانت هي الأخرى من الأمور المقدور عليها, قياسا بحجم المنزل وعدد ساكنيه!
وإجمالا, فقد كانت النظرة الاقتصادية مغيبة عند تشييد المنازل وتحديد حجمها, وقضينا العقود الثلاثة الماضية نتسابق ونتطاول في البنيان, حتى تكونت لدينا قلاع من الأبنية لم نشاهد مثلها فيما حولنا من العالم, الذي تتألف معظم المساكن فيه من شقق أو وحدات صغيرة متلاصقة, ممتدة دون فراغات, لكي تستوعب أكبر عدد من الأفراد, وحينما توجد الفيلات, توجد في أحياء مخصصة, مكونة من عدة أدوار لكي تستوعب الواحدة منها أكثر من أسرة! وبالمناسبة فقد كان لي صديق يعيش مع أسرته المكونة من خمسة أفراد في إحدى المدن البريطانية, في منزل مساحته 50 مترا مربعا, يتألف من طابقين, وكنت أتردد في قبول زيارته تخوفا من إحراجه, ولكنني عندما زرته وجدت أن ذلك المنزل يحوي كل المكونات المطلوبة للسكن, بما في ذلك ثلاث غرف للنوم!
اليوم بدأ الناس يدركون الخطأ الذي وقعوا فيه, عندما أحس الكثير منهم بالوحشة داخل تلك القلاع, بخاصة بعدما غادرهم ذووهم مفضلين الاستقلال, وعندما شعروا بوطأة تكاليف الصيانة والخدمات لمساحات تصفر فيها الرياح! ويتمنى الكثير, الآن, لو استبدلوا مساكنهم الكبيرة بأخرى اقتصادية تشعرهم بالطمأنينة والألفة والتقارب أكثر, خاصة بعدما أحسو أنها, أي المساكن الكبيرة, كانت سببا في تباعد الأسرة, وانعزال أفرادها, كل منهم في ركنه, بعيدا عن فرص التلاقي والاجتماع ولو مرة واحدة في اليوم!
والآن, وقد بدأت النظرة تتحول شيئا فشيئا, ويتمنى كثير من الأسر لو تركوا مساكنهم الكبيرة إلى أخرى يسيطر عليها العامل الاقتصادي, فإن التوجه في تصميم المساكن وتنفيذها ينبغي أن يواكب تلك النظرة, وأن يمهد لها ويشجعها, وذلك بالتركيز على توظيف العامل الاقتصادي في كل شيء, بدءا من تحديد حجم المنزل ومساحته, وانتهاء بمرافقه الخارجية, لأن الملاحظ أن طموح الناس في امتلاك المساكن, وتخيلهم لحجمها قد تقلص إلى أدنى حد يكفي لإيواء الأسرة, بخاصة بعد أن ارتفعت تكاليف الأرض, وتبعتها تكاليف البناء بشكل غير منطقي, ويخشى أن يسهم ذلك في تباطؤ حركة البناء, وانصراف المستثمرين فيه, وهم قلة, إلى مجالات أخرى!
وقد أدرك صندوق التنمية العقارية, مشكورا, الذي يعد أكبر مؤسسة أسهمت في توفير المساكن للمواطنين بقروض ميسرة, هذه الحقيقة, قبل غيره, عندما سمح أخيرا بتوجيه القروض, لمن يرغب, لتمويل تملك الشقق, ومن المتوقع أن يجد هذا التوجيه إقبالا كبيرا بعد أن أصبح من المتعذر على السواد الأعظم من المواطنين, الحصول على الأرض بسبب ارتفاع قيمتها!
الخلاصة: إن تغير الظروف والإمكانات سيجبر المستثمرين على التجاوب معها, ويجب أن ينتبهوا مبكرا إلى توجيه استثماراتهم إلى المساكن الاقتصادية ويبقى دور الأجهزة الحكومية المسؤولة عن تخطيط الأحياء, وتراخيص البناء, في استيعاب ومسايرة هذا التوجه, وتبني المرونة فيه, وتشجيع كل ما شأنه توفير الوحدات السكنية الاقتصادية, مثل المجمعات, والعمارات والفيلات متعددة الأدوار, في محاولة لمواجهة النقص الكبير في المساكن, حاضرا ومستقبلا!
أختم حديثي بالإشارة إلى دراسة حديثة أعلنتها الهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض (صحيفة "الرياض" 25/4/1428هـ) تقول إن احتياج مدينة الرياض فقط, خلال 17 عاما, أي إلى عام 1445هـ, سيكون في حدود 495 ألف مسكن, بمعنى أن الاحتياج السنوي سيكون في حدود 30 ألفا, وفي ضوء هذه الدراسة يبرز تساؤل عن عدد الوحدات التي يتم توفيرها حاليا من قبل الأفراد, وكل المستثمرين, وجهات التمويل! وكنت أتنمى لو اشتملت الدراسة على ذلك, لكي يتبين لنا البون الشاسع بين الاحتياج وما يتم توفيره وهو بناء على الشواهد وبكل المقاييس لا يبلغ نصف الاحتياج, وربما يتناقص في المستقبل, في ضوء الارتفاع الحاد لأسعار الأراضي وتكاليف البناء. وللحديث بقية عن جوانب أخرى من الموضع, لأهميته.
والله من وراء القصد.