حوار نفطي بين "راعي الجمال" و"راعي البقر"
نشرت الصحف العربية والعالمية في الأيام الأخيرة خبر التقرير الذي أعدته شركة IHSعن النفط في العراق والذي أشار إلى وجود كميات كبيرة من النفط في "المناطق السنية"، وإلى أن تكاليف استخراج النفط أقل من دولارين للبرميل.
على الرغم من أن التقرير لم يأت بجديد، إلا أن المزعج هو وقوع وسائل الإعلام العربية في مصيدة "أكدمة العداء ضد العرب" ورددت بشكل ببغاوي ما نشرته وسائل الإعلام الغربية من أن تكاليف إنتاج النفط في العراق أقل من دولارين، بدون أن تنتبه للإسقاطات السياسية الكبيرة لهذه الجملة. إن التركيز على "تكلفة استخراج النفط" يوحي بأن هذه هي تكلفة النفط، وأن الدول المنتجة للنفط "مصاصة دماء" لأنها تستخرج النفط بأقل من دولارين وتبيعه بأكثر من 60 دولارا للبرميل. لتوضيح الفكرة أعيد نشر المقال أدناه، للأهمية، والذي نشر منذ عدة سنوات، قبل أن تتضاعف أسعار النفط.
شن "رعاة البقرة" حملة شعواء على من سموهم بـ"رعاة الِجمال" لقيامهم بتخفيض الإنتاج ورفع أسعار النفط. ونظراً لاتفاق العلماء بأن سلوك الشعوب يتأثر باللحوم التي يأكلونها فإنني لم استغرب الصبر والتحمل الذي أبداه "رعاة الجمال"، ولكنني استغربت "الحقد" الذي أبداه بعض "رعاة البقر" حيث إن هناك اعتقاد شائع أن الحقد من صفات الجِمال وليس البقر!
وكنت قد تحدثت مع أحدهم، وهو أمريكي متخصص في شؤون الطاقة، بعد أن شن هجوماً عنيفاً على العرب وسخر منهم بقوله "إنه لا يمكن لرعاة الجِمال أن يتقنوا إدارة أسواق النفط"، في إشارة إلى قيام أوبك بتخفيض إنتاج النفط ومحاولتها الإبقاء على أسعار النفط ضمن النطاق السعري. وقد حاول الاعتذار بعد أن أخبرته بأنني أنتمي إلى من سماهم ب"رعاة الجِمال"، ويبدو أنه أحس بالحرج عندما أخبرته بأن أول جَمل رأيته في حياتي عن قرب كان في بلاده وليس في بلادي!
وعندما سألته عن سبب تحامله على العرب ذكر ما قاله العديد من المسؤولين الأمريكيين من أنه ليس من "العدل" أن تقوم دول الخليج بتحقيق أرباح طائلة على حساب المستهلك الأمريكي لأن "التكلفة الحدية" لإنتاج برميل من النفط لا تتجاوز الدولار الواحد في بعض دول الخليج مثل السعودية والكويت، في الوقت الذي تجاوزت فيه أسعار النفط 30 دولارً للبرميل. وأيقنت من طريقة كلامه أنه إذا لم يكن ادعاؤه نتيجة حقد دفين فإنه نتيجة جهل شديد، وبذلك فإن علي أن أزيل حقده أو أمحو جهله!
وقد كنت محظوظاً بعض الشيء لأن غريمي في هذه الحالة ضليع في مبادئ الاقتصاد، الأمر الذي مكنني من طرح بعض الأمور مباشرة دون حاجة إلى شرح مفصل. فمن المعروف في علم الاقتصاد أن أسعار الموارد المعدنية، بما في ذلك النفط، تُحدّد حسب ما يسمى ب"تكلفة الاستعمال" وليس "التكلفة الحدية". وعلى الرغم من اختلاف علماء الاقتصاد في تحديد ماهية "تكلفة الاستعمال" وكيفية حسابها، إلا أن استخدام أي طريقة معروفة سيؤدي إلى نتيجة حتمية وهي أن تكلفة الاستعمال تفوق التكلفة الحدية بكثير. إن التكلفة التي يتكلم عنها هؤلاء على أنها "التكلفة الحدية" هي تكلفة استخراج النفط فقط ولا تشمل ثمن النفط نفسه، ولا تشمل ثمن النفط كمصدر ناضب، ولا تشمل التكاليف الأخرى المتعلقة بإنتاج النفط وتسويقه مثل الطرق والمواصلات والموانئ والخدمات الصحية للعمال وغير ذلك. إن إضافة هذه التكاليف يوضح أن أرباح دول أوبك خلال السنوات العشرين الماضية، إن وجدت، أقل بكثير مما يذكره الغربيون.
ونظراً لتندر الأمريكيين على العرب بأنهم "رعاة الِجمال" فإنني عادة ما استخدم المثال التالي لكي يفهم "رعاة البقر" أن تكاليف الإنتاج التي يتكلمون عنها هي تكاليف نقل النفط من باطن الأرض إلى سطحها، ولكنها لا تشمل سعر النفط نفسه كمصدر طبيعي ناضب، فسألت صاحبي: إذا كانت تكلفة نقل البقرة من هيوستن إلى نيويورك 100 دولار، فما هو سعر هذه البقرة في نيويورك؟ هل هو 100 دولار؟ فأجاب: لا، لأن السعر هو ثمن البقرة في هيوستن بالإضافة إلى 100 دولار، تكلفة نقل البقرة إلى نيويورك. وكان ردي على الفور: لماذا لا تطبق الفكرة نفسها على النفط؟... وحاول التملص من المأزق الذي وقع فيه فقال بارتباك: ولكن النفط غير البقر. فابتسمت لهذه السذاجة وقلت في نفسي "يبدو أن الرجل يعرف بقره جيداً" ثم أجبت بصوت مرتفع: بالطبع إن النفط يختلف عن البقر!
إن البقر مصدر متجدد (عن طريق التكاثر) بينما يعتبر النفط مصدرا" ناضباً. إن استخراج برميل من النفط يعني نضوب البئر بمقدار برميل واحد لأن النفط - حسب آراء الأغلبية - مصدر غير متجدد، لذلك فإن سعر هذا البرميل يتحدد بكمية الاستثمار اللازمة للتعويض عنه، وهذه هي "تكلفة الاستعمال". وبهذا نكون وصلنا إلى النتيجة التالية: إن سعر النفط يتضمن تكلفة استخراجه بالإضافة إلى ثمنه كسلعة، ويتحدد ثمنه كسلعة بناء على تكلفة الاستثمار اللازمة لإيجاد برميل بديل من النفط، هل أنت موافق؟ فهز رأسه قائلا: كما تعلم فإنني لست متخصصاً مثلك.
أحسست بضعفه فقررت الاستمرار في هجومي قائلاً" عندما تربي الأبقار تحتاج إلى حظيرة وأسوار لحمايتها أليس كذلك؟ وربما تحتاج إلى طبيب بيطري إذا مرضت إحدى الأبقار. وإذا قررت بيعهن فإنك تحتاج إلى شاحنات لنقلهن إلى السوق، والشاحنات تحتاج إلى طريق داخل المزرعة أليس كذلك؟ ترى هل ستحسب هذه التكاليف؟ فهز رأسه موافقاً فقلت: لماذا لا تطبق المبدأ نفسه على النفط؟
نظرت إليه نظرة ثاقبة وقلت: هل تعلم أن تكاليف الإنتاج وفقاً للدفاتر المحاسبية لشركات النفط الأمريكية عندما كانت تسيطر على حقول الشرق الأوسط شملت تكاليف شق الطرق وبناء المستوصفات وتكاليف إدارتها وصيانتها. كما شملت تكاليف بناء المطارات والموانئ وشراء الطائرات. وشملت أيضاً تكاليف الأمن والحماية من الأسلاك الشائكة إلى الحرس. لقد قامت هذه الشركات بإضافة كل التكاليف المتعلقة بالصحة والمواصلات والأمن إلى تكلفة استخراج النفط وإنتاجه. وعندما سيطرت الدول النفطية على مواردها النفطية أصبح شق الطرق وصيانتها تحت إشراف وزارة المواصلات، وأصبحت المستشفيات تحت إشراف وزارة الصحة، كما أصبحت تكاليف الأمن والحماية تحت إشراف وزارة الدفاع. إن توزيع هذه المرافق على الوزارات المتخصصة أدى إلى تناسي الكثيرين هذه التكاليف. لماذا يحق للشركات الأمريكية أن تفعل ذلك، بينما لا يحق لنا أن نفعل الشيء نفسه؟
ثم استأنفت قائلا: أنتم تتوقعون أن تقوم دول الخليج بالاحتفاظ بطاقة إنتاجية إضافية لاستخدامها وقت الأزمات بهدف مساعدتكم أليس كذلك؟ فلما أجاب بنعم استدركت قائلاً: من سيدفع تكاليف هذه الطاقة الإنتاجية العاطلة عن العمل؟. إن وجود هذه الطاقة العاطلة عن العمل يكلف دول الخليج ملايين الدولارات دون الحصول على أي عائد مقابل ذلك. لذلك يجب توزيع هذه التكاليف (بالإضافة إلى عائد هذه الأموال لو استثمرت في مجال آخر) على أسعار النفط لكي تستمر هذه الطاقة الإنتاجية.
نظر الرجل إلى ساعته وقال معتذراً والضيق يبدو على وجهه:" آسف عندي موعد الآن، إلى اللقاء"
وهكذا انتهى اللقاء وأحسست بنشوة المنتصر لأنني قمت "بتثقيف" راعي بقر! ولكنني مازلت أتساءل حتى الآن: لماذا لا يكون عند "رعاة البقر" مواعيد مهمة إلا عندما يواجهون الحقيقة ويحسون بالحرج؟ هل فعلاً قمت "بتثقيفه" أم أنه صم آذانه وأصر واستكبر؟ عندها زالت النشوة وغرقت في صمت عميق.